مجتمع التحقق العربي هو منظمة بحثية غير ربحية معنية بدراسة الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة باللغة العربية على الانترنت، وتقديم الحلول الرائدة والمبتكرة لرصدها

مليون دولار في ثلاثة أشهر: فاتورة باهظة للدعاية الانتخابية على مواقع التواصل في العراق

مليون دولار في ثلاثة أشهر: فاتورة باهظة للدعاية الانتخابية على مواقع التواصل في العراق

شريف مراد

 

بين تموز/يوليو وأيلول/سبتمبر 2025، أنفقت قوى سياسية وشخصيات عراقية أكثر من مليون دولار أمريكي على إعلانات مموّلة في "فيسبوك" و"إنستغرام"، وفق بيانات "ميتا". لكن المفارقة أن 60 بالمئة من هذا الإنفاق جاء من صفحات بلا هوية سياسية معلنة. تتبع "مجتمع التحقق العربي" الصفحات التي تروج للانتخابات العراقية، وطبيعة النشر عليها.

 

في المشهد الانتخابي العراقي، يتقدّم التنافس على مقاعد المجالس والمحافظات من الساحات والخُطب إلى الشاشات الصغيرة التي ترافق الناخبين في كل لحظة، لتصبح الهواتف ميداناً مركزياً للتأثير والإقناع. فبين مطلع تموز/يوليو ونهاية أيلول/سبتمبر 2025، أنفقت جهات سياسية ومحلية وشخصيات فردية نحو مليون دولار أمريكي على إعلانات مموّلة في "فيسبوك" و"إنستغرام"، وفق بيانات رسمية صادرة عن مكتبة إعلانات "ميتا"، التي ترصد الحملات السياسية الممولة في كل بلد، علماً أن الحملات الانتخابية لم تنطلق بعد، رسمياً، خلال هذه الأشهر.

وتختبئ خلف هذه الأرقام مفارقة لافتة، إذ إن أكثر من 60 بالمئة من هذا الإنفاق جاء من صفحات لا تُعلن انتماءً سياسياً واضحاً، ولا تضع في خانة "Paid for by" أي تعريف بجهة التمويل؛ أي إن المبلغ الأكبر من المال الانتخابي في الفضاء الرقمي العراقي يتحرك دون هوية، رغم أن المحتوى موجّه بوضوح، ويستهدف جغرافياً المحافظات الأكثر سخونة انتخابياً.

اعتمد هذا التحقيق على تقارير شركة ميتا لآخر 90 يوماً (أرقام مُجمّعة حسب المحافظات وفئات الممولين)، إضافةً إلى ملفات إعلان مفصّلة في بداية تشرين الثاني/نوفمبر. في الملفات المفصّلة، حُسب الإنفاق بمتوسط نطاق كل إعلان. صُنِّفت النصوص آلياً (عربي/كردي) إلى مباشر/غير مباشر، ثم رُوجِعَت بشرياً، وأي انتماء حزبي لم يرد بسند علني واضح أبقيناه "غير مُصنّف".

مشهد عام للساحة الرقمية الانتخابية 

تتصدر بغداد خريطة الإنفاق الرقمي بنحو 282 ألف دولار خلال ثلاثة أشهر فقط، أي ما يقارب ثلث مجمل الإنفاق الانتخابي الرقمي في العراق، تليها نينوى بقرابة 113 ألف دولار، ثم ذي قار والبصرة بنحو 60 ألفاً لكل منهما، تليهما بابل وأربيل والنجف بأرقام تتراوح ما بين 50 و58 ألف دولار.
تُظهر بيانات "ميتا" أيضاً أن المحافظات الأقل وزناً سياسياً، مثل القادسية وواسط وبابل، لم تكن غائبة، لكنها حظيت بإنفاق أقل. 

غير أن ما يكشفه التحليل ليس فقط حجم المال، بل غياب التوجهات؛ فأكثر من 60 بالمئة من هذا الإنفاق جاء من صفحات لا تُفصح عن أي انتماء حزبي أو جهة تمويل في خانة "Paid for by"، ما يعني أن الكتلة الأكبر من الحملات الانتخابية الرقمية تتحرك بهويةٍ مجهولة لكنها تحمل خطاباً واضح الاتجاه.

وعند تتبّع مصادر هذا المال، يتضح أن السوق الرقمية تُدار من أطرافٍ ليست بالضرورة حزبية أو معروفة للرأي العام.

الصفحات غير المصنّفة أنفقت ما يقارب 600 ألف دولار، متقدمة بفارق كبير على المرشحين الأفراد (نحو 173 ألفاً) والأحزاب السياسية (109 آلاف)، في حين توزّع ما تبقّى بين التحالفات (63 ألفاً)، والمسؤولين المحليين (25 ألفاً).
أما على مستوى الخطاب، فقد أظهرت قراءة مئات النصوص المموّلة أن الدعاية الرقمية لا تُروّج لبرامج أو مشروعات سياسية بقدر ما تسوّق لسرديات قُرب وثقة وانتماء. في الجنوب والوسط، يتصدر الخطاب الاجتماعي العشائري ذو الطابع الديني أو القيمي، الذي يستحضر رموزاً محلية ويبني شرعية من القرب الاجتماعي أكثر من المضمون السياسي. 

وفي المدن الحضرية الكبرى، تسود لغة الإنجاز والخدمة والتنمية، في حين يتبنى بعض المرشحين خطاباً إدارياً أو تنفيذياً يركّز على الكفاءة والمشاريع.

أما في المحافظات الشمالية، فيميل الخطاب إلى الشكل الانتخابي المباشر، بالأسماء والأرقام والرموز، بلغة كردية واضحة تستهدف جمهوراً محدداً جغرافياً ولسانياً.

الصفحات العامة كواجهات سياسية

تبدو عشرات الصفحات العراقية على "فيسبوك" وكأنها منصات إخبارية أو مجتمعية محايدة، لكن تتبّع بيانات الإعلانات المموّلة يكشف أن كثيراً منها يمارس دعاية انتخابية مقنّعة، تخدم أطرافاً سياسية بعينها من دون أن تُعلن ذلك صراحة.
في العيّنة المفصّلة التي حلّلناها خلال الأسبوع الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2025، برزت صفحات؛ مثل "ملتقى البشائر"، و"Bukhari Jamil"، و"ملتقى العراق العربي"، و"العراق يجمعنا"، من بين الأعلى إنفاقاً في بغداد والجنوب، ضمن فئة "غير مُعرّف المموّل" (Unspecified sponsor)، وهي الفئة التي استحوذت وحدها على أكثر من نصف الإنفاق الرقمي الانتخابي في العراق.

يُقدَّر أن هذه الشبكة من الصفحات العامة أنفقت خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة قرابة 600 ألف دولار، توزعت بين منشورات خبرية تحمل عناوين عن "لقاءات"، و"زيارات"، و"مشاريع خدمية"، لكنها في مضمونها تروّج بانتظام لوجوه محددة من الإطار التنسيقي، أو لشخصيات تنفيذية مقربة من القوى الشيعية التقليدية.


اللافت أن الإعلانات نفسها لا تتحدث عن الانتخابات أو التصويت، بل عن "الاستقرار"، و"المشاريع المنجزة"، و"الولاء للوطن"، وهي عبارات تُعيد إنتاج الخطاب الرسمي ذاته.

من خلال مطابقة النصوص مع بيانات الإنفاق والمناطق المستهدفة، يظهر أن هذه الصفحات تركّز على بغداد، والبصرة، وكربلاء، وذي قار، أي المحافظات التي تشهد تنافساً شديداً بين تيارات الإطار من جهة، والقوى المستقلة أو المدنية من جهة أخرى.

أما صفحة "Bukhari Jamil" التي تقدم نفسها كصفحة ثقافية واجتماعية، فقد نشرت خلال الأسبوع الأول من تشرين الأول/أكتوبر إعلانات مكررة بنصوص شبه متطابقة، تضمّنت صوراً لقيادات محلية من التيار ذاته، وإشارات رمزية إلى "الوفاء"، و"الحق"، و"الأصالة"، وهي مفردات مألوفة في الدعاية العشائرية التي يعتمدها الإطار التنسيقي عادة لتعبئة قواعده.

التحليل اللغوي للنصوص يُظهر أن أكثر من 70 بالمئة من محتوى هذه الإعلانات يحمل مؤشرات خطاب تعبوي إيجابي موجَّه نحو قاعدة داعمة، لا نحو إقناع مترددين؛ أي إنها إعلانات تعبئة داخلية أكثر من كونها إعلانات انتخابية تنافسية.

أما "ملتقى البشائر"، الذي يحتفظ بقاعدة جماهيرية واسعة في الجنوب وبغداد، فيستخدم أسلوباً أكثر احترافاً في الإخفاء.

لا تشير الصفحة إلى أي انتماء حزبي، لكنها تُنتج مواداً دعائية مصوّرة تتطابق في المضمون والأسلوب مع مقاطع بثتها قنوات قريبة من ائتلاف دولة القانون، حتى إن بعض المقاطع يُعاد نشرها حرفياً على حسابات شخصيات مرتبطة بالائتلاف.

الصفحة موثقة، وتُظهر لقطات "Ad Library" أن الإعلانات ممولة من اسم الصفحة نفسه (Paid for by: حركة البشائر الشبابية)، دون إظهار كيان حزبي يقف خلفها، وهو ما يُبقي الانتماء السياسي غير مُصنّف تحريرياً. 

الأمر ذاته تكرر مع صفحات أخرى تنشر باللغة الكردية، إذ تُستخدم القنوات الإعلامية المحلية كواجهة لدعاية أحزاب كردية معروفة، خصوصاً في أربيل والسليمانية، لكن دون الإشارة إلى التمويل الحزبي المباشر.

على سبيل المثال، أظهرت بيانات الإعلانات خلال الأسبوع الأول من تشرين الأول/أكتوبر، إنفاقاً متكرراً من صفحات، مثل "Roj News"، و"Zanko Media"، على منشورات تتضمن صور ورسائل المرشحين من الحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP) وحركة التغيير (كوران)، بلغة كردية واضحة تستهدف جمهور أربيل والسليمانية.

هذه الإعلانات، التي تراوحت ميزانيتها ما بين أربعة وتسعة آلاف دولار لكل صفحة خلال الفترة القصيرة، لم تُدرج أي تعريف بالجهة الممولة في خانة "Paid for by"، رغم كونها تروّج لمضمونٍ سياسي مباشر (أسماء القوائم، أو أرقام المرشحين، أو شعارات حزبية).

بذلك، تصبح هذه المنصّات الإعلامية واجهاتٍ ناعمة للدعاية الانتخابية، إذ يُموَّل الخطاب الحزبي بوسائل تبدو إعلامية محايدة لكنها تُعيد تدوير الرسائل السياسية نفسها.

المال في الظل



في الظاهر تبدو السوق الدعائية الرقمية واضحة، من حيث صفحات مرشحين، أحزاب وتحالفات، وحسابات مسؤولين محلّيين. لكن حين نعيد تجميع الأرقام كما وردت في ملفات "ميتا" يظهر أن اللاعب الأكبر لا يعلن عن انتمائه السياسي. خلال آخر 90 يوماً، أنفقت الصفحات غير المُعرّفة قرابة 600 ألف دولار، أي نحو ثلاثة أضعاف ما أنفقته الأحزاب والحركات مجتمعة (109 آلاف)، وأكثر من إنفاق المرشحين الأفراد (173 ألفاً). 

مثال على ذلك صفحة "ملتقى البشائر"، التي تنشر محتوى منذ 2021 يميل إلى ائتلاف القانون/الإطار، من خلال خطاب خدمي غير موجه حزبياً، وبلغ إجمالي إنفاقها على الإعلانات الموجهة قرابة 37 ألف دولار، مع استهداف كثيف لبغداد والجنوب.

أما مجموعة الصفحات الكردية التي تنشر محتوى انتخابياً مباشراً -وفي مقدمتها "Bukhari Jamil"- فقد بلغ إنفاقها الإجمالي نحو 18 ألف دولار خلال الفترة محلّ الدراسة، وفق بيانات ميتا.

هذه الصفحات تنشر بلغة كردية صريحة مواداً تتضمّن أرقام قوائم وشعارات أحزاب، لكنها لا تُشير في نصوص الإعلانات إلى الانتماء الحزبي.

كما صُنفت صفحات إعلامية داخل كتلة "غير المُعرّف"، أي الصفحات التي لا تُفصح في خانة "Paid for by" عن حزب أو تحالف، مثل "Roj News" و"Zanko Media" و"Erbil 24". هذه المنصات تُقدّم نفسها كقنوات إخبارية محلية، لكنها تموّل محتوىً موجّهاً لجمهور كردي محدد في إقليم كردستان.

وتتوزع هذه الصفحات جغرافياً، فتأتي بغداد أولاً بنحو 282 ألف دولار من إجمالي الإنفاق الوطني خلال 90 يوماً، ثم نينوى بنحو 113 ألفاً، ثم محافظات الجنوب، ذي قار، والبصرة، وبابل، بمبالغ تتراوح ما بين 58–62 ألفاً لكل منها. 

ووفق المناطق الجغرافية تتشكل السردية، ففي بغداد تُروَّج سردية القدرة والهيبة والإنجاز، وفي الجنوب تُسوَّق شرعية القرب الاجتماعي والديني، وفي الشمال يظهر الخطاب الانتخابي المباشر بلغة وهوية محلّيتين. 

ويلاحظ أن ثلثا الإنفاق يمرّان عبر قنوات غير مصنّفة، في حين تتراجع شفافية المنصّة والجهات الرقابية إلى حدّ الغياب. 

وتمثل البيانات التي راقبناها الموجة الأولى قبل ذروة الحملة، ومن المرجّح أن تشهد الأسابيع المقبلة تضاعفاً في حجم الإنفاق واتساعاً في رقعة الرسائل. ومع اقتراب موعد الاقتراع، سيصبح من الضروري تتبّع ما إذا كانت هذه الشبكات "غير المُعرّفة" ستُعيد تدوير خطابها في شكلٍ أكثر وضوحاً، أم ستواصل العمل في الظل لتحديد اتجاهات التصويت.