أدى هذا الحدث إلى اندلاع اشتباكات عنيفة في مناطق متعددة من طرابلس؛ بما في ذلك عين زارة وصلاح الدين وأبو سليم، استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى، وفرار عدد من السجناء من سجن الجديد. أعلنت حكومة الوحدة الوطنية لاحقاً سيطرتها على منطقة أبو سليم، وأكد رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة أن العملية تهدف إلى بسط سلطة الدولة، وإنهاء وجود المجموعات المسلحة غير النظامية.
في خضم هذه الأحداث، عاد وسم "#الفيلق_الأوروبي" للظهور بقوة على منصة "إكس" (تويتر سابقاً)، إذ استخدمته حسابات متعددة لنشر روايات بشأن تورط أوروبي مزعوم في الأحداث، ما أسهم في تضخيم السردية الرقمية حول التدخل الأجنبي في ليبيا.
في الجزء الأول من هذا التقرير نقدم تحليلاً معمقاً لأكثر من 400 منشور على الوسم، ومؤشرات أنه حملة منسقة. في الجزء الثاني، نرصد من يقف وراء نشر الوسوم وما يحتويه من سرديات رقمية متعلقة بـ"الفيلق الأوروبي".
صعود مفاجئ
في أيار/مايو 2025، ومع تصاعد الاشتباكات المسلحة في العاصمة طرابلس عقب مقتل الككلي واندلاع معارك بين فصائل مسلحة أبرزها ميليشيا 444، عاد وسم "#الفيلق_الأوروبي" للظهور بشكل لافت على منصة "إكس".
بدء الوسم ينتشر ضمن روايات تتحدث عن وجود عسكري أوروبي في ليبيا، مشفوعة بصور ومقاطع فيديو تدّعي مشاركة "الفيلق" في عمليات على الأرض، أو تشير إلى صلات استخباراتية أوروبية باغتيالات ميدانية.
وتنتشر على هذا الوسم سرديات بأن حلف شمال الأطلسي (الناتو) يسعى إلى السيطرة على مقدرات الشعب الليبي من نفط وغاز من خلال الفيلق الأوروبي الذي يتألف من المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية.
بيانات عام 2025
أسهم هذا التوقيت الدقيق -الذي تزامن مع انهيار أمني في طرابلس واتهامات متبادلة بين الفصائل- في تضخيم السردية التي تربط بين التدخل الأجنبي والتصعيد الداخلي.
بيانات عام 2024
وبدأ ظهور وسم "#الفيلق_الأوروبي" في 17 حزيران/يونيو 2024، وتكرر النشاط عليه في 23 تموز/يوليو، 22 آب/أغسطس، 27 تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، قبل أن يصل لذروته في أيار/مايو 2025.
هذه التواريخ تزامنت كلها مع محطات سياسية وعسكرية حساسة في ليبيا؛ مثل زيارات أوروبية رفيعة المستوى إلى طرابلس، وتغيّرات في خطاب الحكومة المؤقتة، أو تحركات عسكرية بارزة غربي البلاد.
وقفز وسم #الفيلق_الأوروبي فجأةً في الثالث من تشرين الأول/أكتوبر 2024 إلى أكثر من 170 ألف ظهور منشور، بالتزامن مع تسريبَ مسوّدة "مذكّرة تفاهم أمنية" بين حكومة الدبيبة وشركة إيني الإيطاليّة، تتضمّن بنوداً لإنشاء "وحدة مشتركة لحماية الحقول وخطوط الغاز" في الغرب الليبي.
التسريب -الذي نشرته أوّلاً مواقع محلّية صغيرة ثم التقطته حساب "المعتصم الفيتوري"- صُوِّر على أنّه أدلّة قاطعة على استعداد إيطاليا لإدخال قوّات عسكريّة مموّهة تحت مسمّى "الفيلق الأوروبي".
أطلقت الحملة على الوسم ثلاثة حسابات فقط فقط في ساعة واحدة، ويكشف تحليلنا إلى أن هذه الحسابات تمتلك شبكات إعادة نشر مرتبطة بعشرات الحسابات الصغيرة التي تعيد نشر المحتوى.
التحليل الشبكي يُظهر أنّ حسابي @NEFWEW7vyIiR9IA "جرائم الميليشيات" و@h5PITEOcChu9esY "تحت طاولة المؤسسة الوطنية للنفط" عملا مركزاً لشبكة تولّت إعادة النشر فوراً إلى عشرات الحسابات الأصغر؛ هذه الحسابات بدورها تتبع نمط نشرٍ متطابق في النص والتوقيت، ما يرجّح إدارتها بأدوات جدولة أو برمجيات أوتوماتيكية.
وصدر المنشور الأصلي من حساب @al_mutasem_al_f (المعتصم الفيتوري) الذي يمتلك جمهوراً حقيقياً قوامه 10 آلاف متابع تقريباً، ويُعرف بخطاب قومي مناهض لأي وجود أجنبي.
بيانات عام 2024
بمقارنة الأنماط الرقمية على مدار العام والنصف، نجد أن التفاوت بين عدد المنشورات وحجم الوصول الجماهيري كان سمة ثابتة للحملة. ففي أيار/مايو 2025، نُشر 25 منشوراً فقط، لكن المنشورات وصلت إلى أكثر من 52 ألف حساب، وظهرت في أكثر من 85 ألف مرة على الجداول الزمنية للمستخدمين، وهي أرقام لا يمكن تفسيرها إلا بوجود عملية توزيع مركزية تعتمد على إعادة النشر من حسابات ذات جمهور واسع أو بتقنيات أوتوماتيكية منظمة.
بيانات عام 2025
تكتيكات النشر.. كيف صُمّمت الحملة لتضخيم نفسها؟
بعد فهم الإطار الزمني والنشاط الكمي على وسم "#الفيلق_الأوروبي"، توجه تحليلنا نحو تحليل نوعية المحتوى الذي شكّل هذه الحملة الرقمية، وكيفية تفاعله مع الجمهور.
البيانات المستخرجة من منصة Meltwater تكشف أن أكثر من نصف المنشورات المتداولة باستخدام الوسم (55.6%) كانت إعادة نشر، في حين لم تصل نسبة المحتوى الأصلي إلى ربع نسبة التفاعل على الوسم، ما قد يشير إلى حملة تضخيم بإعادة نشر المحتوى.
بيانات عام 2024
بيانات 2024
بالإضافة إلى تحليل توقيت الحملات وتكتيكات نشر المحتوى، يكشف التحليل النصي المتعمق للمنشورات المتداولة على وسم "#الفيلق_الأوروبي" خلال عامي 2024 و2025 مزيداً من الوضوح بشأن الأهداف السردية والسياسية للحملة، والتطورات التي طرأت على محتواها، سواء من حيث المضمون أو الشخصيات والجهات المستهدفة، فضلاً عن تغير نبرة الخطاب.
يُبرز تحليل الكلمات المفتاحية أن الخطاب المتداول على وسم "#الفيلق_الأوروبي" خلال عام 2024 ركّز بشكل ملحوظ على نزع الشرعية عن رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، من خلال تكرار وصفه بـ"المنتهية ولايته" (25 مرة)، في دلالة على مسعى متعمد لتهيئة الرأي العام لتقبّل فكرة انتهاء شرعيته، بما يمهّد الطريق لتدخل أو تحوّل سياسي محتمل.
بيانات عام 2024
لكن مع مطلع عام 2025، شهد الخطاب المتداول على الوسم تحولاً ملحوظاً نحو مزيد من التصعيد العلني والمباشر، من خلال استخدام عبارات أكثر حدّة وتحريضاً؛ مثل "القادم سيطال" (16 مرة) و"الأعلى لثوار" (7 مرات).
بيانات 2025
وعلى مستوى الشخصيّات، تكرار في منشورات الوسوم لعام 2024 ذكر اسم المشير خليفة حفتر بوصفه الخصم العسكري لطرابلس، فيما استُحضر نيكولا أورلاندو -المبعوث الإيطالي الخاص إلى ليبيا آنذاك- دليلاً على الدور الإيطالي المباشر في هندسة ما يسمّى بـ "الفيلق الأوروبي"؛ أي قوّة مشتركة تقودها روما بدعم لوجستي من حلفاء أوروبيين لحماية استثمارات شركة إيني وخطوط الغاز. كما برز في منشورات عام 2025، أسماء قادة بارزين مقربين من حكومة الوحدة الوطنية؛ مثل قائد الكتيبة 55 مشاة معمر لضاوي، ووكيل وزارة الدفاع بحكومة الوحدة الوطنية عبد السلام الزوبي.
وذكرت أسماء القادة المرتبطين بحكومة الوحدة الوطنية وحرس المنشآت النفطية سلبياً، في إطار سردية تتهمهم بالتعاون مع "الفيلق الأوروبي".
من يحرّك الموجة؟
عبر Meltwater، استطعنا التوصل إلى أبرز الحسابات المشاركة في الحملة التي تروج للغزو الأوروبي لليبيا، أبرزها حساب المعتصم الفيتوري، الذي احتلت منشوراته صدارة قائمة الأكثر نشراً على الوسم عام 2024.
يركز خطاب الفيتوري على الهجوم على حكومة عبد الحميد الدبيبة، واتهامه باستخدام المال العام لشراء الولاءات، وتوزيع الرشاوى بشكل علني لإجبار الموظفين والناس على التظاهر لصالحه.
وبحلول عام 2025، تصدر حسابا "جرائم المليشيات" (@NEFWEW7vyIiR9IA) و"تحت طاولة المؤسسة الوطنية للنفط" (@h5PITEOcChu9esY) قائمة الأكثر تفاعلاً على الوسم؛ إذ يقدّمان رواياتٍ حيةً عن الاشتباكات، وصوراً وفيديوهات مزعومة من أرض الميدان، وقوائمَ بأسماء قتلى وجرحى. هذه المادة رفعت متوسط التفاعل إلى ذروته، فقد بلغ أكثر من 340 تفاعلاً على منشور واحد في أيار/مايو 2025.
خلال عام 2024 بلغت ذروة التفاعل على الوسم عندما أُعلن عن سيطرة الفيلق الأوروبي على الكلية البحرية في جنزور. لم يكن الحدث مؤكَّداً ميدانيًّاً، لكن مجرد احتمال "احتلال منشأة عسكرية" كان كافياً لجذب تفاعل الجمهور.
أما التفاعلات في عام 2025 توزعت على ثلاث ذُرى واضحة؛ اغتيال الككلي وما تبعه من اتهامات بتورط خبراء أوروبيين، في 12 أيار/مايو 2025، وانسحاب ميليشيا 444 في 14 أيار/مايو 2025، ومناورة الصحراء التي قِيل إنها تحاكي الهجوم على حقول النفط.
هذه النتائج يدعمها التحليل الشبكي، الذي من خلاله رسمنا خريطة دقيقة لانتشار السردية على منصة "إكس" التي تتكون من خطوط الاتصال الخفية التي تنقل المنشورات من مصدر المنشورات الأولي نحو آلاف المتابعين. ويشير التحليل الشبكي للحسابات المشاركة على وسم "#الفيلق_الأوروبي" أن التفاعل على الوسم لا يعتمد على تفاعل طبيعي عفوي، بل تتحكم بها دوائر مغلقة من الحسابات، بعضها حقيقي وآخر يبدو أقرب الآلي أو المنظّم.
في قلب هذه الشبكة الرقمية، برز حسابا "جرائم المليشيات" و"تحت طاولة المؤسسة الوطنية للنفط". لم يكن نفوذهما مستمداً فقط من عدد متابعيها الكبير نسبياً، بل من قدرتها على إعادة توجيه دفة النقاش. فعندما يُطلِق أحد هذين الحسابين مشنوراً يحمل أخباراً عن مواجهات أو اغتيالات أو اتهامات بتدخل أجنبي، سرعان ما تُلتقط هذه الرسائل من قِبَل حسابات متوسطة الحجم أو صغيرة، ليعاد نشرها عشرات المرات في دقائق معدودة.
كما أن التحليل الشبكي كشف أيضاً عن "عُقد وسيطة" أقل شهرة من "جرائم المليشيات" و"تحت طاولة المؤسسة"، لكنها تؤدّي دوراً في ضخّ الرسائل إلى الدوائر الأوسع.
أبرز هذه الحسابات، حسابات: @hosseinmosa الذي لكن يتجاوز عدد متابعيه 170 ألفاً، و@fawaselmedia و@knowwhathappend @Ibnwatanlibya، و@salmaliby. كلها لا تنشر بكثافة، إلا أنّ خوارزميات "إكس" تُعاملها بوصفها مصادر موثوقة بسبب قدمها أو حجم جمهورها؛ فتتحول كل إعادة نشر أو ذكر تأتي منها إلى دفعة انتشار ضخمة تُغذّي شبكة الحسابات الأصغر. وجود هذه الحلقات الوسيطة يوفّر للمنظِّمين جسوراً جاهزة بين مركز الحملة وقواعد التضخيم، ويُفسّر كيف يُعاد تدوير المنشورات نفسها مئات المرّات في دقائق، من دون أن يبدو المشهد مُصنّعاً للمتابع العادي.
بالإضافة إلى ذلك، كشف تحليل الوساطة (Betweenness Centrality) أن عدداً محدوداً من الحسابات كان مسؤولاً عن معظم الانتشار. هذه الحسابات المركزية تلعب دور "الوسيط" الرقمي الذي من دونه يتفكك الخطاب وتقل درجة وصوله للجمهور، ما يعني أن هذه الحسابات بمثابة "جسور" رقمية ضرورية لتمرير السردية من نقطة انطلاقها الأولى نحو الشبكات الأوسع.
التحليل الشبكي أيضًا أظهر لنا مجموعات (clusters) منفصلة من الحسابات، تردد الرسالة نفسها بشكل شبه حرفي، وتنشط في أوقات متزامنة. هذه الظاهرة التي يطلق عليها "الشبكات المنسقة" (Coordinated Networks) واحدة من أوضح المؤشرات على حملات التأثير الاصطناعي. هذه المجموعات ظهرت بشكل واضح في أوقات اشتعال الأحداث التي تناولناها سابقًا، مثل اشتباكات أيار/مايو 2025، وأحداث حقول النفط في تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2024.
الخلاصة الأهم في هذا التحليل الشبكي، هي أن التفاعل على وسم "#الفيلق_الأوروبي" لم يكن عشوائياً، بل كان عبر بنية رقمية، يتحكم فيها عدد قليل من الحسابات المركزية ذات النفوذ، تساعدها مجموعات منظمة من العقد الوسيطة التي تمرر السردية إلى أطراف الشبكة، لتعمل على تضخيمها، ومحاولة التأثير في جمهور مواقع التواصل الاجتماعي.