في ظل المعارك المستمرة في الخرطوم ومناطق أخرى من السودان، رصد “مجتمع التحقق العربي” أنشطة إلكترونية غير أصيلة، مدعومة بشبكات من الحسابات الوهمية تنتمي إلى مختلف أطراف الصراع، إلى جانب تدفّق كبير من المعلومات المضللة.
منذ نهايات أيلول/ سبتمبر 2024، خاض الجيش السوداني معارك شديدة في مناطق متفرّقة من البلاد؛ منها العاصمة المُثلثة، وسط تقارير عن تراجع للدعم السريع أمام تقدّم الجيش.
في هذه الأثناء، نشطت حملات إلكترونية متباينة، تسعى الى دعم روايات أطراف الصراع لما يحصل على الأرض، بخاصة التدخل المصري في الحرب لصالح الجيش السوداني، مقابل دعم الإمارات لقوات الدعم السريع.
وتصدّر مصطلح “الطيران المجهول” قائمة أكثر الموضوعات المتداولة على مستوى مصر لأيام عدة، وبلغ ذروة الحديث عنه في 29 أيلول/ سبتمبر 2024، مستنداً إلى أكثر من 900 تدوينة عبر منصة إكس في هذا اليوم وحده.
ربطت غالبية التدوينات بين تقدم الجيش السوداني وظهور طائرات عسكرية مجهولة الهوية تشن غارات جوية في السودان، مستهدفة قوات الدعم السريع.
غذى الجدل حول “الطيران المجهول” مواد مصوّرة أرشيفية قديمة وأخرى من المعارك الحالية، نشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي الفترة ما بين الأول من أيلول/ سبتمبر و8 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، بلغ إجمالي التدوينات المنشورة في هذا الشأن نحو 1800 تدوينة، شُوهدت مليونين و172 ألف مرة على الأقل. ونتجت من المنشورات 15648 حالة تفاعل (إعجاب، إعادة مشاركة، ردود وتعليقات)، حسب إحصاءات أداة Meltwater الرائدة في تحليل محتوى الشبكات الاجتماعية.
فترات نشاط “الطيران المجهول” – Meltwater
وحلّت مصر في صدارة الوجهات المعروفة جغرافياً لصدور التدوينات (346 تدوينة)، تليها السودان (68)، وأميركا (38)، والمملكة العربية السعودية (32)، والإمارات العربية المتحدة (17).
في المقابل، يُقدر عدد التدوينات الصادرة من أماكن غير معروفة بأكثر من 1190 تدوينة، وهو عدد أكبر من تلك التي يُعرف مصدرها، وفقاً لإحصاءات Meltwater. ويُعد ذلك مؤشراً إلى التلاعب في سياسات استخدام منصة “إكس”؛ بهدف الحشد لصالح رواية معينة.
خلال الفترة الزمنية نفسها، كتب 1372 حساباً عن “الطيران المجهول” عبر “إكس”، وبرزت حسابات مصرية مؤثرة خلال الموجة للترويج لدور مصري في التغيرات العسكرية الأخيرة لصالح الجيش السوداني.
ومن بين هذه الحسابات، حساب باسم المايسترو، BASSEMELMASSRY@، ومحمد قنديل MrKandiel@، ونونا السيسي NadiaMa14905909@؛ وهي حسابات كبيرة تحظى بمتابعة عشرات الآلاف، واعتادت الترويج لنظريات المؤامرة، وتضخيم الدعاية السياسية للحكومة، ومهاجمة ناقديها.
وامتدّ نطاق الحملة إلى مواقع تواصل اجتماعي أخرى؛ مثل فيسبوك وتيك توك ويوتيوب، مدعومة بمنشورات على صفحات مؤثرين اعتادوا التعبير عن مصالح الحكومة المصرية، والظهور في بعض مناسباتها الرسمية؛ مثل صفحة “الوعي نور” للمؤثر محمد نور، الذي يتابعه أكثر من مليون شخص على فيسبوك، وصفحة أحمد مبارك صاحبة المليوني متابع.
راجت معلومات مضلّلة عن الطيران المجهول الهوية، مستندة إلى مقاطع فيديو قديمة أو متلاعب فيها، وأخرى مصحوبة بسياقات غير مرتبطة بالمزاعم المتداولة.
على سبيل المثال، نُشرت مقاطع فيديو زعم مروجوها أنها توثق لحظة إقلاع طائرات عسكرية مصرية من أسوان في طريقها إلى السودان؛ لتوجيه ضربات إلى قوات الدعم السريع.
في البداية، انتشرت غالبية هذه المقاطع على منصة “تيك توك”، وسرعان ما انتقلت إلى منصات أخرى بصورة متكررة، بخاصة “إكس”.
على رغم حداثة الفيديوهات المتداولة، وتزامنها مع رواج المزاعم، لكنها في الحقيقة التقطت أثناء العروض الجوية خلال فعاليات الاحتفال باليوم العالمي للسياحة في أسوان، في 26 أيلول/ سبتمبر 2024؛ وهو ما تؤكده تغطيات وسائل إعلام مصرية للحدث.
كما تكرر نشر مقطع فيديو، مصحوباً برواية غير صحيحة، تزعم “قيام الطيران المجهول باستهداف مواقع الدعم السريع في الخرطوم ومحور الجيلي”.
وكتبت حسابات أخرى عن الفيديو: “خد بالك مش أي طيار يقصف هدف من المسافة القريبة جداً دي وميصبش غير الهدف اللي عايز يصيبه فقط بدون إصابة مدنيين غير طيار محترف”.
وعند التدقيق في الفيديو يتّضح أنه منخفض الجودة، وخضع لتعديلات عن طريق أدوات معالجة المواد المصورة، في حين تعود النسخة الأصلية من الفيديو إلى 16 نيسان/ أبريل 2023؛ أي في اليوم الثاني للحرب.
عثرنا على أول نسخة للفيديو منشورة عبر صفحة “الزول” المعروفة والمهتمة بتغطية الصراع في السودان، ولا تظهر أية طائرة حربية في المقاطع التي يحتوي عليها الفيديو الأصلي.
على مدار شهور سبقت اندلاع الحرب في السودان، أطلقت صفحات داعمة للدعم السريع حملات هجوم على مصر، محرضة ضد القوات المصرية الموجودة في مطار مروي شمال السودان.
ويوم اندلاع الحرب، نشرت الصفحات الرسمية لقوات حميدتي مقاطع فيديو من قاعدة مروي للإعلان عن السيطرة عليها من “القوات المسلحة العميلة” و”المحتلين المصريين”.
أثارت الواقعة غضباً في مصر، التي قالت إن قواتها تواجدت في المطار؛ “لإجراء تدريبات مع نظيرتها في السودان”.
وبعد أيام من موجة “الطيران المجهول”، ظهر قائد قوات الدعم السريع في مقطع فيديو، وجّه فيه اتهامات غير مدعومة بالأدلة، إلى مصر، بينما نفت وزارة الخارجية المصرية “اشتراك الطيران المصري في المعارك الدائرة بالسودان”.
تبنى حميدتي ما روجته حسابات البروباغندا في مصر عن “الطيران المجهول”، قائلاً إن مصر “تدرب الجيش السوداني وأمدّته بطائرات صينية من طراز k8″، مضيفاً: “قواتنا في جبل موية بولاية سنار قُتلوا وضُربوا غدراً بالطيران المصري… صمتنا كثيراً على مشاركة الطيران المصري في الحرب حتى يتراجعوا لكنهم تمادوا الآن”.
في آب/ أغسطس 2024، نفى الجيش السوداني حصوله على طائرات من طراز K8 الصينية من مصر، قائلاً إنه “يمتلك أسراباً من هذا الطراز من الطائرات صينية الصنع منذ مطلع الألفية الحالية… ولا حاجة الى الاستعانة بأي دولة صديقة للحصول على مزيد من هذه الطائرات”.
يمتلك الجيش السوداني بالفعل 12 طائرة من طراز K8s المعروفة أيضاً باسم هونغدو JL 8، بحسب موقع Air Force Technology. وثمة صورة لثلاث طائرات من الطراز نفسه عليها العلم سوداني على موقع Airliners.
في غضون ذلك، أطلقت الحسابات الداعمة للدعم السريع والإمارات على “إكس” حملة أخرى لمهاجمة الجيش السوداني، بعد وقت قصير من اتهام الإمارات للجيش بقصف منزل السفير الإماراتي في الخرطوم، روّجت لمعلومات مضلّلة في هذا الشأن.
وسبق أن اتهم قائد الجيش عبدالفتاح البرهان أبو ظبي بتقديم الدعم لقوات حميدتي، خلال مؤتمر صحافي في نيويورك نهايات شهر أيلول/ سبتمبر 2024.
ونفت وزارة الخارجية السودانية قصف منزل السفير الإماراتي، قائلة إن حالته جيدة ولا يُستخدم كمقر دبلوماسي.
وعلى رغم هذا النفي، نشر موقع “برق السودان” مقطع فيديو يزعم أنه “مُسرب لأحد جنود الجيش السوداني وهو يوثق الأضرار من داخل مقر إقامة سفير الإمارات لدى السودان، ويتباهى لقيادة الجيش بنجاح عملية الاستهداف”.
ولا تظهر في الفيديو هوية الشخص المتحدث، الذي كان يتحرك بين حطام منزل لا تتضح معالمه.
عند الاطلاع على الموقع الإلكتروني لـ “برق السودان”، يمكن ملاحظة كثافة الموضوعات المنشورة الإيجابية عن الإمارات، التي تروج لـ”إمارات الخير” و”عبقرية زايد”.
وعبر حسابه على “إكس”، قال “برق السودان” إنه يتخذ من شارع المك نمر الشهير في الخرطوم مقراً له. غير أن بيانات الشفافية لصفحة الموقع على “فيسبوك” تكشف أن ثلاثة من مديري الصفحة غير معروف موقعهم الجغرافي، كما تشير بيانات قناة الموقع على يوتيوب، المنشأة في 17 شباط/ فبراير 2020، إلى أنها تدار من الإمارات العربية المتحدة.
لاحقاً، أعادت شبكة حسابات وهمية -تقدم نفسها على أنها سودانية- نشر الفيديوهات المنسوبة إلى منزل السفير الإماراتي؛ من بينها حسابات سبق أن كشف “مجتمع التحقق العربي” دورها في حملات التأثير لصالح الدعم السريع والتعبير عن مصالح الإمارات، وتضخيم الحديث عن دور إيران والقوى الإسلامية في البلاد؛ مثل حساب زاهية الحيلي وعيون السودان.
وتكرّر نشر كلمات وعبارات مصاحبة لفيديوهات منزل السفير، مثل “جيش سناء”؛ وهو مصطلح درجت الحسابات المؤيدة للدعم السريع على استخدامه عند انتقاد الجيش السوداني.
كما لاحظنا أنها تروج عبر المنشورات لسردية واحدة تعبر عن مخاوف من “عزلة السودان الدولية”، وسعى الجيش السوداني إلى “قطع علاقات السودان بدول الجوار”، مع التعبير عن رفض “صورة نقلها الكيزان للرأي العام العالمي… هي مجرد تشويه وعِند مع الإمارات لكي تحط البلد في مأزق”، في إشارة في ما يبدو إلى تصريحات عبدالفتاح البرهان في نيويورك.
– اعتدنا من جيش سناء على جرائم الحرب ولكن لم ولن تعتاد على إصرارهم في استهداف قطع علاقاتنا مع دول الأشقاء.
لم تسلم المنشآت الدبلوماسية من بطش الطيران كما لم يسلم المدنيين من جرائمهم.
– عزلة #السودان الدولية هو الهدف السامي للفلول وللحركات المسلحة فكلما انعزلت السودان وقعت في فخ السيطرة الكاملة للجماعات التخريبية الذين سيطروا على ثروات السودان وحقوق شعبها. فمن أشعلوا حرب 15 أبريل يستهدفون قطع علاقات السودان بدول الجوار
– في الوقت الذي نحتاج الي المساعدات الخارجية بشكل كبير يسعى الجيش السودان وراء قطع علاقاتها مع دول الجوار دون النظر للشعب المسكين الذي يحتاج الدعم من جميع الدول.
في المقابل، ضخمت حسابات لرواية الجيش السوداني ومهاجمة الإمارات. وفي هذا الصدد، راجت وسوم عدة؛ منها “#السودان_ينتصر، #لا_سلم_الله_الإمارات، #الامارات_تدعم_الارهاب، #الامارات_تقتل_السودانيين”.
على سبيل المثال، جمع وسم #الامارات_تقتل_السودانيين 544 ألف تدوينة منذ ظهوره الأول في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.
وبمشاركة ما لا يقل عن 26 ألف حساب، نُشر أكثر من 93 ألف تدوينة على الوسم خلال الفترة من 12 أيلول/ سبتمبر إلى 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، إذ حققت التدوينات أكثر من 33 مليون مشاهدة، وفقاً لإحصاءات Meltwater
خلال الفترة الزمنية نفسها، وصلت معدلات إعادة مشاركة المحتوى المنشور إلى نحو 60 في المئة، بما يساوي 55800 تدوينة، وهي تقديرات قريبة من عدد التدوينات غير المعروف موقعها الجغرافي (57800 ألف تدوينة)، في حين شكلت التدوينات الأصلية الصادرة مباشرة من الحسابات نسبة 4.2 في المئة، أي نحو 4 آلاف تدوينة فقط؛ وهو مؤشر إلى النشاط الإلكتروني غير الأصيل عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
نوعية التدوينات المنشورة في وسم #الامارات_تقتل_السودانيين – Meltwater
ولا يعني تطرقنا الى الوسم بالضرورة أن كل ما ورد فيه غير صحيح، لا سيما في ما يتعلق بالنفوذ الإماراتي في السودان، لكنه بات محل اهتمام مع وجود أنشطة غير تلقائية عليه، في ظل مشاركة حسابات تحظى بمتابعة عشرات ومئات الآلاف من المتابعين؛ ما ساهم في زيادة رواج الهاشتاغ.
ونشطت على هذا الوسم حسابات سودانية ويمنية معروفة بنشاطها في نشر معلومات مُضللة أو إطلاق الحملات أو التضخيم غير الأصيل للنقاشات عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وكان لافتاً انخراط مؤثرين بارزين في الوسم؛ مثل حساب “بنت خليفة” وياسين أحمد، والكاتب الصحافي اليمني أنيس منصور، واليمني عادل الحسني، ووسام يوسف.
وطلب أحد الفاعلين على وسم #الإمارات_تقتل_السودانيين، من متابعيه ترويج الوسم، ودفعه ليحتل صدارة الوسوم الرائجة في 30 أيلول/ سبتمبر 2024.
وأشارت تقارير إعلامية إلى الدعم العسكري الذي تقدمه الإمارات إلى قوات الدعم السريع؛ وهو ما دأبت الدولة الخليجية على نفيه مراراً.