في 19 مارس/آذار 2025، وبينما كانت شوارع إسطنبول تغلي بالاحتجاجات الشعبية على خلفية التحقيقات التي تطال رئيس بلديتها أكرم إمام أوغلو، انفجرت على منصة "إكس" عاصفة رقمية مفاجئة. خلال ساعات قليلة، تصدّر وسم "#تركيا _تنتفض" قوائم الترند في عدة دول عربية.
وفي خضم الاستعدادات الانتخابية المبكرة، انفجرت قضية قضائية طالت أوغلو، الذي فتح القضاء التركي ضده تحقيقين منفصلين بتهم تتراوح بين الفساد المالي والتواطؤ مع منظمة إرهابية.
هذه التحقيقات، التي اعتبرتها الحكومة التركية "إجراءات قانونية عادية"، رأها خصوم الرئيس التركي رجب أردوغان وسيلة جديدة لإقصاء أبرز منافسيه قبل أي استحقاق انتخابي محتمل. فقد سبق وأن صعد إمام أوغلو بسرعة إلى واجهة المشهد السياسي بعد فوزه في بلدية إسطنبول عام 2019، ما جعله أحد الأسماء القليلة التي يُنظر إليها بجدية كمنافس مباشر لأردوغان.
وفي خضم هذه الأزمة السياسية الداخلية، تسارعت حركة التعبئة الرقمية، ليس فقط من الداخل التركي، بل من حسابات تقع خارج البلاد.
في مساء 19 مارس 2025، بدأ وسم #تركيا تنتفض في الظهور تدريجياً على "إكس"، قبل أن يتحول خلال ساعات إلى موجة رقمية جارفة. لم يكن ظهور الوسم تدريجياً كما يحدث عادةً في الأحداث الطبيعية أو التفاعلات العضوية، بل اتسم بتسارع لافت، مع تسجيل أكثر من 5,000 منشور خلال الساعات الأولى فقط، ثم وصول العدد إلى أكثر من 13,600 منشور في اليوم التالي؛ وهو ما شكّل ذروة الحملة الرقمية.
المثير في البيانات أن الانخفاض الحاد بدأ بمجرد انتهاء التفاعل الإعلامي مع أخبار الاحتجاجات في تركيا، إذ تراجع عدد التغريدات في 22 مارس/آذار إلى أقل من 1,300 منشور، بعد أن كان قد تجاوز 9,000 قبلها بيومين. هذا النمط – الانفجار المفاجئ ثم التراجع السريع – يُعد من أبرز مؤشرات الحملات الرقمية الممنهجة، التي تنطلق فجأة، وتصل الذروة بسرعة، ثم تنحسر بمجرد تحقيق أهدافها الإعلامية.
ثاني هذه المؤشرات يكمن في الهيمنة الواضحة للمنشورات المعاد نشرها (Reposts)، إذ بلغت أكثر من 13,800 إعادة النشر، مقارنةً بـ 1027 منشوراً أصلياً فقط. هذا النمط من الانتشار يدل بوضوح على استراتيجية منسقة تقوم على نشر محتوى محدد، ثم دفع شبكات الحسابات لإعادة نشره على نطاق واسع لتحقيق انتشار سريع وقوي.
كما كشفت البيانات أن الوسم لم يكن وحيداً، بل ترافقت معه وسوم أخرى فرعية؛ مثل: #اردوغان_ديكتاتور و#تركيا_تسقط.
لم تكن الغالبية العظمى من المنشورات على وسم "#تركيا_تنتفض" صادرة من داخل تركيا. فوفقاً لتحليل بيانات الموقع الجغرافي للحسابات التي نشرت هذه المنشورات، تبيّن أن أكثر من 75% من المحتوى جاء من خارج الحدود التركية، وتحديداً من دول عربية؛ مثل: مصر (1200 منشور)، العراق (923 منشوراً)، اليمن (778 منشوراً)، والسعودية (429 منشوراً).
حملة واحدة وشبكات مختلفة
أظهر التحليل المتقدم لشبكات المنشورات وإعادة النشر على وسم "#تركيا_تنتفض" وجود عدة حسابات لعبت دوراً مركزياً في صناعة هذه الحملة وتوجيه مساراتها الإعلامية.
من بين آلاف الحسابات المشاركة، برز حساب @almohamadawi31 بوصفه نقطة الارتكاز الأساسية، إذ وصل معدل مركزيته في الشبكة (Degree Centrality) إلى أكثر من 50%، ما يجعله الأكثر تأثيراً من حيث الإشارة إليه وتفاعل المستخدمين معه.
هذا الحساب لم يكتف بنشر منشورات حققت انتشاراً واسعاً، بل كان حاضراً بشكل مكثّف عبر الإشارة والتفاعل مع حسابات أخرى، ما يشير إلى دوره القيادي المحتمل في توجيه مضمون الحملة وانتشارها.
من خلال مراجعة وتحليل أبرز محتويات حساب المغرد "صادق المحمداوي (@almohamadawi31)"، يتضح أن منشوراته تدور في فلك بما يُعرف إعلاميا بـ"محور المُمَانعة " الذي تقوده قوى وحركات مرتبطة بإيران، إذ تُبرز منشوراته مواقف داعمة بشكل واضح لقوى إقليمية؛ مثل جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) في اليمن. مثال ذلك المنشور التي نشر فيها مقطع فيديو لشاب فلسطيني يشيد بـ"أنصار الله" ويعلن تمنيه بأن تكون حدود فلسطين مع اليمن، لتسريع التحرير على حد تعبيره. ويعكس منشور أخر للحساب لغة خطابية موجهة نحو "القيادة الشيعية"، إذ يستخدم مصطلح "القوات الشيعية" بشكل واضح ومباشر في سياق تصعيدي.
كما برز حساب @alshayakhliu1، وهو صاحب المنشور الثاني الأعلى تفاعلاً، وكان حاضراً في المشهد بقوة، مع درجة مركزية بلغت نحو 9%، بالإضافة إلى حسابات أخر؛ مثل @Alsharifyusuf73 و@aeaat11 و@L1JmG9xosh7fgo1 التي ظهرت بوصفها نقاط اتصال هامة، تلقت وأرسلت منشورات ضمن الشبكة بشكل فعال ومنسق.
بعد مراجعة لمنشورات وتوجهات حساب وسن الشيخلي (@alshayakhliu1)، يتضح دعمه قوي للمواقف الإيرانية في المنطقة، مع التركيز على انتقاد تركيا، خاصة في إطار الأزمة السياسية الأخيرة المرتبطة بالرئيس أردوغان.
وما يلفت النظر أكثر هو بنية الشبكة ذاتها، التي اتسمت بوجود عدة مجتمعات رقمية مغلقة (Clusters)، تتفاعل داخلياً بشكل مكثف، وتدفع المحتوى ذاته بصورة متزامنة تقريباً. ومن أبرز هذه المجموعات، مجموعة ضمت حسابات؛ مثل: @saqr_alhrya، وهو الحساب الأكثر نشاطاً في الحملة بـ 141 منشوراً، إضافةً إلى @hsmlmmdy148913 و @dandrawy_hawary، ما يعكس بوضوح وجود تنسيق قوي ومسبق.
وتظهر هذه الحسابات دعمها للنظام المصري الحالي، الذي احتفظ طويلاً بعلاقات متوترة مع النظام التركي، قبل عودة العلاقات مطلع عام 2023.
أما المجموعة الثانية فضمت حسابات؛ مثل: @pop2166 و @xqn03t222، اللذين تبادلا تفاعلاً واسعاً، وتميزا بنشر مضامين محددة و متقاربة.
كما ظهرت مجموعة ثالثة بقيادة حسابات؛ مثل: @alshamari_1979 و @ne3mat3awad التي شكّلت محوراً آخر من محاور نشر الوسم وترويجه.
ماذا تقول الكلمات المفتاحية؟
واحتلت الوسوم الداعمة للسردية ذاتها صدارة المحتوى، وعلى رأسها الوسم الأساسي للحملة #تركيا_تنتفض بأكثر من 18 ألف إستخدام، إلى جانب وسوم؛ مثل #اردوغان (8,053 مرة) و#اردوغان_ديكتاتور و#تركيا_تشتعل.
من أبرز الملامح التي اتّسمت بها حملة #تركيا_تنتفض الاستخدام الواسع والمُمنهج للمعلومات المضللة، سواء من خلال نشر أخبار زائفة، أو تداول صور وفيديوهات خارجة عن سياقها، أو عبر التلاعب بالأوصاف والمصطلحات.
في مقدمة هذا النمط، جاء المنشور الذي نشرته حسابات مؤثرة مثل @almohamadawi31، والتي زعمت أن "متظاهرين قاموا بإحراق القنصلية الإسرائيلية في إسطنبول"، وهتفوا ضد إسرائيل وأمريكا.
هذه المعلومة غير صحيحة، ولم ترد في أي مصدر إعلامي موثوق، لكن تم تداولها على نطاق واسع، وحققت أكثر من 4,800 إعادة نشر.
كما نشر حساب @alshayakhliu1 مقطع فيديو يُزعم أنه يُظهر "مظاهرات ضخمة تحدث في إسطنبول"، مع تعليق يشير إلى أن "قنوات الجزيرة والعربية والشرقية لا تنقل ما يحدث". لكن بعد التحقق باستخدام أداة InVID ووكالة فرانس برس (AFP)، تبين أن المقطع يعود إلى زيارة البابا فرانسيس إلى دولة تيمور الشرقية في سبتمبر 2024، وليس له أي علاقة بالأحداث في تركيا أو إسطنبول. بل تم تداول نفس الفيديو سابقاً في سياقات مضللة أخرى، مثل الادعاء الزائف حول احتجاجات في مومباي بالهند.
كذلك رُصدت عدة منشورات ومقاطع فيديو أخرى قديمة أعيد تداولها على أنها توثق الاحتجاجات الأخيرة؛ مثل فيديوهات لأحداث في صربيا أو من احتجاجات سابقة في تركيا، تمت مشاركتها عبر حسابات داخل الحملة دون الإشارة إلى توقيتها ومكانها الحقيقي. ولكن تم كشفها من حسابات إعلامية متخصصة؛ مثل: @omaraljmmal و@eekadfacts