مجتمع التحقق العربي هو منظمة بحثية غير ربحية معنية بدراسة الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة باللغة العربية على الانترنت، وتقديم الحلول الرائدة والمبتكرة لرصدها

“التمويل الخارجي للتظاهرات” و”قيس أمام الجنائيّة”… الصراع التونسي يمتدّ إلى الفضاء الإلكتروني

“التمويل الخارجي للتظاهرات” و”قيس أمام الجنائيّة”… الصراع التونسي يمتدّ إلى الفضاء الإلكتروني

يلعب مؤثرون وصفحات ومجموعات ضخمة على فيسبوك، الأكثر استخداماً في تونس، دوراً بارزاً في ماكينة الدعاية لصالح الرئيس قيس سعيد، وفي صلب هذه الأنشطة مهاجمة منافسيه ومعارضيه وتشويههم.


وصلت حالة الاستقطاب السياسي إلى ذروتها في تونس في الأسابيع الأخيرة قبيل الانتخابات الرئاسية المُقررة في تشرين الأول/ أكتوبر 2024، مصحوبة باحتجاجات في شوارع العاصمة، ومعارك إلكترونية عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وأججت الأوضاع الحركة الاحتجاجية التي اندلعت منتصف أيلول 2024، احتجاجاً على تردّي الأوضاع الحقوقية.

وفيما امتدت دعاية أنصار الرئيس التونسي قيس سعيد إلى التشويه والتحريض على منافسيه ومنظمات المجتمع المدني، ظهرت صفحات عدة عبر منصات اجتماعية -كما فيسبوك- للحشد ضد “رجل القانون” الذي فرض قبضته على السلطات كافة بمراسم متتابعة منذ صيف العام 2021، في خطوة يصفها معارضوه بأنها “انقلاب دستوري”.

رسمياً، يخوض الانتخابات ثلاثة مرشحين من أصل 17 تقدموا لخوض السباق؛ هم: الرئيس المنتهية ولايته قيس سعيد، وأمين عام حركة الشعب زهير المغزاوي، وأمين عام حركة “عازمون” العياشي زمال، الموقوف حالياً بتهمة تزوير أو “افتعال تزكيات شعبية”.

في 7 أيلول 2024، أمرت المحكمة العليا في تونس بعودة اثنين من المرشحين إلى القائمة النهائية لمرشحي الانتخابات الرئاسية؛ هما عبد اللطيف مكي ومنذر زنيدي. وحذرت من “وضع غير قانوني” حال عدم الاستجابة لحكمها.

يأتي قرار المحكمة العليا بعد صدام بين هيئة الانتخابات والمحكمة الإدارية نتيجة رفض الهيئة تنفيذ حكم الأخيرة بإعادة إدراج ثلاثة مرشحين في القائمة؛ من بينهم مكي وزنيدي، إضافة إلى عماد الدايمي.

صفحات الدعاية لـ “قيس”

يلعب مؤثرون وصفحات ومجموعات ضخمة على فيسبوك، الأكثر استخداماً في تونس، دوراً بارزاً في ماكينة الدعاية لصالح الرئيس قيس سعيد، وفي صلب هذه الأنشطة مهاجمة منافسيه ومعارضيه وتشويههم.

من بين هذه المجموعات “مسكينة تونس”، التي يديرها أسامة بن عرفة؛ وهو مدون تونسي يعيش في فرنسا. 

يتابع الصفحة العامة لأسامة 937 ألف شخص، فيما أنشأ 16 مجموعة على فيسبوك، بعضها وصل عدد متابعيه إلى 500 ألف متابع، ويستخدمها في الدعاية لصالح قيس سعيد. 

يظهر بن عرفة في مداخلات تلفزيونية على محطات محلية وعربية، ويشير أرشيف تدويناته إلى آراء سلبية عن حركة النهضة ومجموعات معارضة أخرى.


نشطت مجموعات أخرى مؤثرة؛ منها ما يحمل أسماء كيانات رسمية، دعماً لقيس سعيد؛ مثل: “رئاسة الجمهورية التونسية، الجيش الإلكتروني التونسي، الردار التونسي، 30 MINS، الشعب التونسي، تـونـس، يا خضراء باعوك، شبكة أخبار تونس، أخبار تونس لحظة بلحظة، تونس الكلمه الحرة، كلنا قيس سعيد قائد الجمهورية الثالثة، تونس القلب”.

عند التدقيق في تواريخ إنشاء الكثير من هذه المجموعات، لاحظنا مفارقة كونها ظهرت بعد وقت قصير من صدور قرارات قيس سعيد بحل الحكومة وتجميد البرلمان في 25 تموز/ يوليو 2021. 

على سبيل المثال، ظهرت مجموعة “الجيش الإلكتروني التونسي” في يوم 27 من الشهر نفسه آنذاك، وتضم 25 ألف مشترك على الأقل، ويديرها حساب مُغلق باسم Sarrou Sarra، وغير متاحة رؤية محتواه، سوى صورة مصحوبة بتعليق يهاجم فيه الرئيس الانتقالي السابق المنصف المرزوقي، ويصفه بأنه “خائن للوطن”، ويدعو إلى سحب الجنسية منه.

تشويه ونظريات مؤامرة وخطاب كراهية

على مدار السنوات الأخيرة، ينشط المؤثرون والمجموعات المعبرة عن دعمها لترشح الرئيس التونسي، بشكل بارز بعد إطلاقه تصريحات، ليتم إعادة نشر مقتطفات منها عن طريق ملصقات ومواد مصورة، مع الشروع في مهاجمة شخصيات أو كيانات يصادف ورودها في كلام الرئيس. 

ومع تنظيم احتجاجات مناهضة للرئيس قبيل الانتخابات، ظهرت منشورات تصف المشاركين فيها بـ”أبناء الخونة”، وتقلل من تأثير التظاهرات، مصحوبة بالتشويه، وخطاب الكراهية.

ونشر مؤيدون للرئيس لقطات مصوّرة منسوبة الى التظاهرات للترويج لقلة عدد المشاركين، مع استخدام عبارات ساخرة، مثل “فرقتهم الأيديولوجيا فجمعتهم نرمين صفر”، في إشارة إلى الراقصة التونسية التي عبرت عن نقدها لسياسات سعيد أيضاً. 

لا يتضح بالتحديد متى التُقطت الصور المنسوبة الى التظاهرات، لكن تغطيات وسائل الإعلام تشير إلى وجود الآلاف من الأشخاص على الأقل.

وسخر منشور لصفحة “يوميات توانسة”، المؤيدة للرئيس، بصورة رأسية لجانب من التظاهرات أمام المسرح البلدي، قائلاً: “صورة للمسيرة الاحتجاجية للأحزاب السياسية والجمعيات وتمويلات القوى الخارجية في تونس العاصمة”.

وفي 22 أيلول/ سبتمبر، أعلنت هيئة الانتخابات أنها أحالت ملفات عدد من الجمعيات والمؤسسات الإعلامية إلى النيابة العامة، بزعم “تلقي تحويلات مالية مهمة قادمة من الكثير من الجهات الأجنبية، وذلك قبيل وأثناء الفترة الانتخابية الحالية، وكذلك المحطات الانتخابية السابقة”.

وأثار قرار هيئة الانتخابات حالة من التشكك لدى تونسيين بشأن مدى نزاهة العملية الانتخابية، وسط هجمات موازية على الشبكات الاجتماعية ضد مؤسسات المجتمع المدني ووسائل إعلام وسياسيين وناشطين. 

إلى جانب اللجوء إلى معلومات مضلّلة، عادة ما يستدعي أنصار قيس سعيد نظريات المؤامرة والترويج لمساع أجنبية للتدخل في شؤون البلاد، وسط نبرة تخوين لناقدي قيس سعيد.  

في صفحتها عبر فيسبوك، التي يتابعها 41 ألف متابع، أعادت المؤثرة التونسية رغدة المالكي ترويج نظريات مؤامرة بأن قطب الإعلام والملياردير جورج سورس يدعم الاضطرابات الأخيرة في تونس، وأنه أراد السيطرة على وسائل الإعلام.

وزعمت المالكي أن سورس داعم لحركة أنتيفا المناهضة للفاشية والأفكار الرأسمالية والنيوليبرالية، وهي مزاعم غير صحيحة سبق أن تحققت منها وكالة رويترز. 

ووصفت المالكي المشاركين في الاحتجاج ضد الرئيس بأنهم “خونة، قابضين فلوس”، وشكّكت في وسائل الإعلام. 

على الوتيرة ذاتها، هاجمت صفحات أخرى، مثل 30 MINS، منظمات المجتمع المدني والمجموعات النسوية، واتهمتها بالعمالة لجهات أجنبية والرغبة في إطاحة الرئيس، قائلة: “يحبو يطيحو نظام قيس سعيد بالجمعيات متع العطايا”.

وأطلقت الصفحة نفسها على مسيرة مناهضة للرئيس تسمية “مسيرة الشواذ تحت غطاء حزبي وجمعياتي عميل”. 

ونالت الشبكة التونسية للدفاع عن الحقوق والحريات، التي تتألف من منظمات وجمعيات، إضافة إلى تسعة أحزاب، نصيبها من الهجوم، بنشر محتوى تحريضي مكرر ضدها. 

وكانت صفحة 30 MINS، التي تضع ملصقاً انتخابياً لقيس سعيد ويتابعها 34 ألف شخص، أول من شنّ هجوم الملصقات المكرر على الشبكة التونسية، بعبارة تقول: “شركة أفلست (جبهة الخلاص الوطني) فغيرت اسمها (الشبكة التونسية للدفاع عن الحقوق والحريات)”. إلى جانب ملصقات أخرى تقول “لا لشبكة صنارة قيس سعيد عن جدارة”.     


تشكّلت جبهة الخلاص الوطني بعد قرابة عام من قرارات “25 تموز/ يوليو” الرئاسية، وضمت خمسة أحزاب؛ من بينها حزب حركة النهضة الإسلامي، ورفضت الجبهة المشاركة في الانتخابات الرئاسية لـ”غياب شروط التنافس”. 

ترتبط الصفحة بمجموعة تحمل الاسم نفسه، وتضم خمسة آلاف مشترك، ويديرها شخص اسمه أمين حسني، الذي يقيد الاطلاع على حسابه، باستثناء ما يشير إلى أنه يعمل في شركة تابعة لشركة كرومبرغ وشوبارت الألمانية المتخصصة في تصنيع أسلاك السيارات في ولاية باجة شمال غربي البلاد.

مرشحو الرئاسة والمحكمة الإدارية في مرمى الهجوم

وطالت حملة التشويه مرشحي الرئاسة والمحكمة الإدارية العليا، لصالح بث دعاية إيجابية عن الرئيس التونسي روّجت أن إعادة انتخابه بمثابة “استكمال مسار ثورة تونس”.

ودعت منشورات مؤيدي قيس سعيد المضادة للمرشحين زهير المغزاوي والعياشي زمّال، الى أن يذهبا “إلى الجحيم”، وأنهما “وجهان لعملة واحدة”.

وقالت منشورات أخرى إن العياشي زمّال “يمثل منظومة 24 التي أسقطها الشعب، والمغزاوي يمثل منظومة الانتهازيين من أجل مطامح شخصية”. 

وشبهت تدوينات المفاضلة بين قيس سعيد والمرشح السجين العياشي زمال بأنها كما الاختيار ما بين “إما تونس وإما خراب نفايات العشرية السوداء”.  

وينظر إلى المحكمة الإدارية العليا باعتبارها آخر الهيئات القضائية المستقلة بعد تغييرات سعيد في تركيبة مجلس القضاء الأعلى وقراراته بعزل عشرات القضاة. 

في مطلع أيلول/ سبتمبر 2024، رفضت هيئة الانتخابات تنفيذ قرار المحكمة بإعادة المرشحين عبداللطيف مكي ومنذر زنيدي وعماد الدايمي إلى القائمة النهائية، وهو ما أدى إلى تصاعد حدة التوترات المرتبطة بالانتخابات. 

من جانبهم، استخدم مؤيدو الرئيس التونسي تعبيرات “الغرف” التي تكررت في تصريحات سابقة لها، مثل “غرف فساد”، أو قوله “سنشق طريقنا من دون أي تدخل خارجي، وتونس ليست غرفة للإيجار أو البيع”.

وتقول بعض المنشورات: “المحكمة الإدارية إحدى الغرف السوداء لحركة النهضة، الشعار الجديد للمحكمة الإدارية قضاء البحيري في خدمة العشرية السوداء”، في إشارة إلى الفترة منذ اندلاع الثورة التونسية التي أطاحت الرئيس زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني/ يناير 2011.

وقدم 34 نائباً في البرلمان التونسي مشروع قانون لـ “تنقيح” قانون الانتخابات، من شأنه سحب سلطة المحكمة الإدارية في الفصل في النزاعات الانتخابية وإعطاؤها إلى محاكم الاستئناف. وذلك في تطور جديد عزز المخاوف من التأثير في مصداقية الانتخابات. 

واقترح من تقدموا بمشروع القانون سريان العمل به في الانتخابات الحالية التي ستُجرى في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2024.

صفحات تدار من خارج تونس


في المقابل، نشطت صفحات عدة عبر الشبكات الاجتماعية لترويج خطاب مناهض للرئيس التونسي، وتحظى بمتابعة عشرات الآلاف على الأقل. وأُنشئت في غالبيتها في أعوام 2020، 2022، 2023، 2024. وأحدثها إنشاءً كان في شهري حزيران/ يونيو وتموز/ يوليو 2024.

تدار الصفحات من حسابات تقع في دول مختلفة؛ من بينها تركيا، وإيران، وسوريا، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، والفيليبين، وسويسرا، وأوكرانيا، وفيتنام، بحسب بيانات خاصية الشفافية في شركة ميتا المالكة لمنصة فيسبوك، وهو ما يشير إلى جهد عمدي منسق. 

تعتمد خاصية الشفافية في إظهار أماكن إدارة الصفحات على البيانات التي يتم تضمينها في الحسابات المسؤولة عن إدارتها. 

وفقاً للخاصية، فإن الصفحات منخرطة في بث منشورات إعلانية مدفوعة على صلة بالانتخابات والقضايا السياسية والاجتماعية. نشرت كل واحدة منها عشرات الإعلانات على حدة، ولم تتخطّ تكلفة كل إعلان الـ 100 دولار أميركي.

استهدفت الإعلانات مستخدمي منصات فيسبوك وإنستغرام وماسينجر، وقصدت في غالبيتها مواطني تونس العاصمة، وصفاقس، وسوسة، ومدنين، وبن عروس، ونابل. وكانت تخاطب فئات عمرية مختلفة، بخاصة ما بين سن 25 إلى 64 عاماً، بحسب مكتبة إعلانات ميتا.

A screenshot of a graph Description automatically generated


وتوضح مكتبة إعلانات ميتا أن هذه الصفحات بدأت بشكل متزامن في استخدام الإعلانات الممولة منذ كانون الأول/ ديسمبر 2023، وأنها واصلت طرح هذه النوعية من الإعلانات حتى أيلول/ سبتمبر 2024. 

يشار إلى أن الشبكة الاجتماعية أزالت الكثير منها ومنعت ظهورها، لأن الصفحة أو الحساب المسؤول عنها “لم يتبع معايير الإعلان لدينا”، ولم يوفر إفصاحاً عن المعلن أو يضع علامات تشير إلى أنها إعلانات ممولة.

تقول الشبكة إنه “يجب على المعلنين أيضاً الإفصاح عندما يحتوي إعلان على قضية اجتماعية أو انتخابات أو سياسة”، وإن ارتبط ذلك بـ”صورة أو مقطع فيديو واقعي، أو صوت واقعي، تم إنشاؤه أو تعديله رقمياً”.

A screenshot of a computer Description automatically generated


تحمل الصفحات أسماءً متنوعة، مثل: “بوليتيكات، الشبح السياسي، حي التضامن مباشر، Carthage News، نهضة تونس، السياسة بالفلاّقي، الوزير التونسي”.

كان لافتاً أن كل هذه الصفحات تضع صوراً موحدة للمرشح العياشي زمال، وهي في ما يبدو مأخوذة من حملته الانتخابية الدعائية.

وفي يوم 18 أيلول/ سبتمبر 2024، قضت محكمة جندوبة في تونس بسجن العياشي زمال لمدة عام و8 أشهر، بتهم “افتعال وثائق، وتدليس تزكيات شعبية”. ويواجه المرشح، الذي لا يزال في السباق، اتهامات مماثلة في ولايات تونسية مختلفة.

وعلى رغم استخدامها ملصقات متباينة التصميمات، إلا أن هذه الصفحات تستخدم نبرة الخطاب نفسها وتتناول الموضوعات ذاتها عند التطرق إلى الأوضاع في تونس، لا سيما الانتخابات، مع التركيز على التعليقات والموضوعات المثيرة لتفاعل جمهورها. 

في اللقطات أدناه، نماذج لمنشورات الصفحات وأخرى للإعلانات الممولة التي حذفتها شركة ميتا.

ودأبت هذه الصفحات على الهجوم على الرئيس التونسي قيس سعيد، واصفة إياه بـ “الفاشل”، وروجت معلومات مضللة بشأنه؛ مثل مقاضاته أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما لم يحدث، وكل ما في الأمر أن بعض أهالي المعتقلين السياسيين دعوا المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في ما وصفوه بأنه اضطهاد سياسي يمارسه سعيد، ولم تستدع المحكمة الرئيس التونسي للمثول أمامها في أي وقت مضى.