مع تصاعد حملات التضليل، والتلاعب بالاتجاهات، والتأثير الخفي للمجموعات والحملات المنظمة، أصبح من الضروري استخدام أدوات تحليلية متقدمة تكشف عن الروابط المخفية بين الحسابات والرسائل؛ مثل: تحليل البيانات، وتتبع الكلمات المفتاحية، وقياس حجم الانتشار. ومع ذلك، هناك أداة تحليلية أكثر تطورًا تتجاوز هذه الأساليب التقليدية، إذ لا تركز فقط على المحتوى، بل تسعى إلى كشف الفاعلين الحقيقيين وراء الحملات؛ وهي أداة التحليل الشبكي.
التحليل الشبكي (Network Analysis) هو تقنية قوية تتيح للصحفيين ومدققي المعلومات رسم خريطة رقمية للتفاعلات بين الحسابات على المنصات المختلفة، ما يساعد في كشف الحملات المنسقة، وتحديد الحسابات المؤثرة، وتتبع انتشار المعلومات المضللة.
ما هو التحليل الشبكي
عندما ننظر إلى منشور حقق تفاعلاً ملحوظاً أو وسم منتشر بشكل كبير وسريع على وسائل التواصل الاجتماعي، قد نراه مجرد تعليق عابر أو منشور فردي، لكن ماذا لو استطعنا رؤية الصورة الكاملة؟ كيف تتصل الحسابات ببعضها؟ من يقود المحادثة، ومن يضخمها؟ هنا يأتي دور تحليل الشبكة.
التحليل الشبكي (Network Analysis)، أو ما يُعرف أحياناً بتحليل الشبكة الاجتماعية (Social Network Analysis - SNA)، هو منهجية تُستخدم لدراسة العلاقات والروابط بين الكيانات المختلفة. يمكن أن تشمل هذه الكيانات مؤسسات مالية واقتصادية وتجارية؛ بهدف فهم حجم التداخل والشراكات والتحويلات التي تربطها. كما يمكن أن تتعلق بأفراد نافذين يديرون أنشطة خفية في الظل، متجنبين الظهور العلني خوفاً من المساءلة.
التحليل الشبكي (Network Analysis)، أو ما يُعرف أحياناً بتحليل الشبكة الاجتماعية (Social Network Analysis - SNA)، هو منهجية تُستخدم لدراسة العلاقات والروابط بين الكيانات المختلفة. يمكن أن تشمل هذه الكيانات مؤسسات مالية واقتصادية وتجارية؛ بهدف فهم حجم التداخل والشراكات والتحويلات التي تربطها. كما يمكن أن تتعلق بأفراد نافذين يديرون أنشطة خفية في الظل، متجنبين الظهور العلني خوفاً من المساءلة.
وتكمن مهمة التحليل الشبكي لمواقع التواصل في تتبع تدافع المعلومات والتفاعل والانتشار؛ لمعرفة الحسابات المؤثرة في إطلاق حملة تضليل ما أو هجوم على شخصية معينة، وما حجم تأثير كل حساب شارك في الوسم أو الحملة، تخيل الأمر وكأنه خريطة رقمية، حيث تمثل "العقد" (Nodes) حسابات المستخدمين، و"الحواف" (Edges) تمثل التفاعلات؛ مثل: إعادة النشر، والإعجاب، والتعليق، والمتابعة. هذه الخريطة لا تُظهر فقط من يتحدث مع من، بل تكشف كيف تتدفق المعلومات، ومن يؤثر على من، ومن ينقل عن من .
ومن خلال تحليل هذه الشبكات، يمكننا اكتشاف الأنماط التي تكشف عن التأثير والتنسيق، مثل مجموعات الحسابات التي تعمل معاً لنشر محتوى معين، أو الحسابات التي تلعب دوراً رئيسياً في تضخيم الرسائل. هذا النوع من التحليل يساعد الصحفيين على تجاوز الضوضاء اليومية، وفهم من يملك النفوذ الحقيقي على منصات مثل إكس ، وفيسبوك، وإنستغرام.
بما أن منصة "إكس" هي واحدة من أهم المنصات التي تُستخدم لنشر الأخبار والتأثير على الرأي العام، فإن تحليل الشبكة فيها يكتسب أهمية خاصة. يتميز "إكس" وآلياته الفريدة في نشر المحتوى، مثل إعادة النشر ، والاقتباس، والإشارة إلى الحسابات الأخرى (Mentions)؛ وهي كلها عناصر أساسية تُستخدم في تحليل الشبكة لفهم كيفية انتشار السرديات الرقمية. على المنصة، لا يكون التأثير فقط عبر عدد المتابعين، بل من خلال دور الحسابات في الشبكة. فهناك حسابات محورية (Hubs) تعمل كمراكز لنشر المعلومات، وأخرى تلعب دور الجسور بين المجتمعات المختلفة (Bridges)، في حين تعمل بعض الحسابات على تعزيز السرديات عبر أنماط إعادة نشر متكررة ومنسقة.
يتيح تحليل الشبكة على "إكس" للصحفيين فهم ديناميكيات الحملات المنظمة عبر أدوات مثل قياس مركزية الحسابات (Centrality)، والتكتلات المجتمعية (Community Detection)، وأنماط التفاعل المتزامن. عندما يُطلق وسم معين بشكل مفاجئ، يمكن لتحليل الشبكة أن يكشف ما إذا كان انتشاره طبيعياً أم نتيجة تنسيق مخطط له. على سبيل المثال، إذا أظهرت الخريطة الشبكية أن عدداً كبيراً من الحسابات تنشر المحتوى بنفس الصياغة وفي وقت متقارب، فهذه إشارة على حملة تضليل أو تلاعب اصطناعي بالاتجاهات. كما يمكن للصحفيين تحديد الحسابات التي تلعب أدواراً مزدوجة؛ مثل تلك التي تتظاهر بأنها أفراد عاديون، في حين أنها تعمل بوصفها جزءاً من شبكة أوسع للتلاعب بالسرديات.
كيف نفهم التحليل الشبكي ؟
تبدأ العملية عادةً بجمع بيانات التفاعلات من منصات التواصل الاجتماعي عبر واجهات برمجة التطبيقات أو أدوات الاستخراج المختلفة؛ إذ يمكن استخلاص معلومات؛ مثل الحساب الذي أطلق المنشور، والردود التي تلقاها، والإعجاب، وإعادة النشر، فضلاً عن الإشارات أو المتابعات. عندما يُنظَّم هذا الكم الهائل من البيانات في بنية منظمة من حقول وملاحظات وخلايا تُشير إلى العلاقات أو التفاعلات بين حساب وآخر، يصبح بالإمكان رسم تصور أولي لمستوى الارتباطات بين المستخدمين.
بعد ذلك تأتي مرحلة بناء الرسم البياني، حيث تُمثَّل الحسابات المركزية في نشر السردية بوصفها "عقداً" (Nodes) تدور حولها باقي أطراف الشبكة بوصفها "حواف" (Edges).
قوام التحليل الشبكي هي عملية الرقمنة (Quantification) للبنية الشبكية، والرقمنة هي عدد الحسابات التي تحاكي وتقلد الحسابات المركزية، وبالتالي تصبح الحسابات التي تتلقى أكبر عدد التفاعل هي العقد المركزية التي تقع في قلب الشبكة.
قوام التحليل الشبكي هي عملية الرقمنة (Quantification) للبنية الشبكية، والرقمنة هي عدد الحسابات التي تحاكي وتقلد الحسابات المركزية، وبالتالي تصبح الحسابات التي تتلقى أكبر عدد التفاعل هي العقد المركزية التي تقع في قلب الشبكة.
بعد ذلك، تأتي مرحلة حساب مقاييس الشبكة، إذ يتم التركيز على مؤشرات إحصائية محددة لفهم مدى تأثير الحسابات وطبيعة الأدوار التي تؤديها داخل المنظومة الرقمية؛ من بين هذه المؤشرات مركزية الدرجة (Degree Centrality)، التي تقيس عدد الاتصالات المباشرة التي يمتلكها الحساب، مما يكشف عن الحسابات التي تتمتع بشبكة واسعة من الروابط. أما مركزية الوساطة (Betweenness Centrality)، فتُبرز الحسابات التي تعمل جسوراً بين المجموعات المختلفة، إذ تلعب دور حلقة الوصل أو العنصر الأساسي الذي يتيح انتقال المحتوى من دائرة إلى أخرى.
يمكن أيضاً دمج التحليل الزمني في إطار التحليل الشبكي، بحيث لا تُفهم الشبكة بوصفها بناءً ثابتًا فحسب، بل يُنظر إليها من زاوية تطورها عبر الزمن. على سبيل المثال، يمكن للباحث تتبّع توقيت بدء الحملة على "إكس" أو أي منصة أخرى، ومراقبة اللحظة التي تنتشر فيها المنشورات بوتيرة متصاعدة، ومن ثم رصد مرحلة بلوغها الذروة وتراجعها. يكشف هذا البعد الزمني عمّا إذا كان انتشار الوسم يتم وفق نسق طبيعي، أم أن هناك موجات نشر متزامنة في أوقات محددة. على هذا النحو، لا يُظهر التحليل الشبكي مَن يتفاعل مع مَن فحسب، بل يوضح كذلك متى وقع التفاعل الفعلي في كل مرحلة من مراحل انتشار الوسم أو المحتوى، وهو ما يساعد الصحفيين على ربط بينية الشبكة بإطارها الزمني وفهم إن كان الحراك عفوياً أو منظماً.
عقب ذلك، يصبح التصور البصري أمراً مهمًّا لترجمة هذه الأرقام والارتباطات إلى خريطة مفهومة. تُستخدم هنا برامج وأدوات متخصصة ( سنعرض قسم منها في القسم التالي ) يمكنها رسم الشبكة واستعراض المحاور الأساسية والمجموعات المتداخلة بخطوط وألوان تمكّن الصحفي أو الباحث من رؤية الأنماط والروابط بشكل ميسّر.
أخيرًا، يلجأ بعض الباحثين إلى التحليل الإحصائي للتأكّد من دلالة الأنماط التي جرى رصدها في الشبكة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بتحديد ما إذا كانت هناك علاقة وثيقة بين عدد محدّد من الحسابات أو إذا كان التزامن الحاصل في النشر مُعبّراً عن تنسيق متعمّد. هذه المرحلة الأخيرة تساعد في تمييز الظواهر الطبيعية من الظواهر المصطنعة، وتؤكّد ما إذا كان التجمع الكثيف لبعض الحسابات يشير فعلاً إلى حملة منظمة أم أنه مجرّد تفاعل عفوي.
أدوات التحليل الشبكي
تتفاوت أدوات التحليل الشبكي في مستوى التعقيد والمهارات المطلوبة لاستخدامها، لكنها تشترك في القدرة على رسم خرائط الشبكات، وقياس مدى الترابط بين عقدها. فعلى سبيل المثال، تُعد أداة Gephi واحدة من أشهر الأدوات مفتوحة المصدر، وتتميّز بتنوّع خياراتها في عرض الشبكات الكبيرة. وهي مفيدة للصحفيين الذين يرغبون في إجراء استكشاف سريع أو إنشاء خرائط جذابة تساعد على فهم الأنماط.
وإذا كنت تجيد التعامل مع لغات البرمجة يمكنك استخدام مكتبات برمجية؛ مثل NetworkX في بايثون أو igraph في كل من بايثون وR، لما تمتاز به هذه المكتبات من مرونة عالية في إعداد الأكواد وتخصيص الخوارزميات. كما تتيح إنجاز تحليلات متقدمة مثل الكشف عن المجتمعات أو حساب مختلف أنواع المؤشرات (من بينها مركزية الدرجة ومركزية الوساطة).
أما إن كان الصحفي يحتاج إلى حل سريع بأقل قدر ممكن من البرمجة، فقد يجد ضالته في أدوات؛ مثل NodeXL، وهي أداة تسهل على المبتدئين التقاط الأفكار الأساسية للتحليل الشبكي من دون الاضطرار للدخول في عالم الأكواد.
من ناحية أخرى، لا تُعد Botometer أداة تحليل شبكي متكاملة، بل هي مكملة له، إذ تتيح الكشف عن احتمالية أن يكون الحساب بوتًا أو موجّهًا آليًا. وهذا يوفر مؤشرًا مهمًا للباحثين عند رصد مجموعات الحسابات التي قد تكون جزءًا من حملة منسقة. يساعد ذلك الصحفيين في تحديد الشبكات التي يهيمن عليها النشاط الآلي، وهو ما قد يكون دلالة واضحة على وجود سلوك مضلل أو موجه.
علاوة على ذلك، يمكن ذكر منصّة Meltwater التي لا تُصنّف على أنها أداة تحليل شبكات، لكنها تقدّم خدمات رصد وتحليل واسعة للإعلام الرقمي ومنصات التواصل. توفّر هذه الأداة تحليلات معمّقة للعلامات التجارية والمؤسسات في الوقت الفعلي، ويساعد على تتبّع المؤشرات الرئيسة للتفاعل وإبراز المؤثرين في الحملات، ما قد يتيح للصحفيين رصد الحملات المنظمة أو الكشف عن ديناميكيات التضليل.
مثال عملي على التحليل الشبكي
في تحقيق عن نمط التفاعل على وسم #الجولاني_سفاح_سوريا، تم تطبيق منهجية التحليل الشبكي.
اعتمدت العملية على جمع بيانات التفاعل من الوسم؛ بما في ذلك المشاركات الأصلية، وإعادة النشر، والردود، والإشارات المباشرة، وتصنيف الحسابات بحسب درجة تفاعلها ومركزيتها في الشبكة. وفي حين يُفترض بالحملات الرقمية الطبيعية أن يكون انتشارها أفقياً إلى حدٍ كبير، بحيث يتوزع التفاعل عبر عدد واسع من المستخدمين، رُصد في هذه الحملة وجود مجموعة صغيرة من الحسابات تُشكّل القطب الأساسي للتفاعل، ما يشير إلى وجود تنسيق منظم في عملية نشر المحتوى.
جرى تطبيق خوارزميات التحليل الشبكي -بإستخدام مكتبة NetworkX من لغة بايثون ، لرصد التكرار الزمني في التفاعل بين الحسابات؛ فتبين أن بعض الحسابات تعيد نشر المحتوى عينه خلال فترات زمنية قصيرة، وأن هناك مجموعات من الحسابات تتفاعل في ما بينها بشكل مكثف أكبر بكثير من تفاعلها مع بقية الحسابات. أظهر هذا النمط وجود شبكات تضخيم مغلقة تهدف إلى تعزيز انتشار الوسم داخل دوائر محددة قبل محاولة دفعه إلى جمهور أوسع. من خلال رسم المنحنيات الزمنية للتفاعل، لوحظت قمم حادة في عدد المنشورات خلال ثوانٍ أو دقائق محددة، ثم انخفاض سريع، وهو مؤشر واضح على دفع رقمي موجه بدلاً من حراك تلقائي تصاعدي.
كما قام التحقيق بفحص أنماط إعادة النشر وتوزيع الإشارات، ليظهر أن نسبة كبرى من إعادة النشر جاءت من عدد محدود من الحسابات المحورية التي لعبت دوراً في إدارة دفة التفاعل. بدت الشبكة وكأنها تلتف حول نقاط تجمع أساسية تديرها هذه الحسابات، في ما يشبه الهيكل الهرمي للتضخيم، بدلاً من انتشار عفوي أفقي. أظهر التحليل أيضاً أن العبارة ذاتها كانت تُستخدم على نحو متكرر في محتوى العديد من الحسابات، وهي علامة غالباً ما تدل على التنسيق المدروس أو استخدام برمجيات آلية. وعند مقارنة عدد المنشورات الأصلية بعدد إعادة النشر، اتضح بجلاء أن غالبية التفاعل كان معاد نشره مراراً وتكراراً، بدلاً من إنتاج محتوى جديد، وهو ما يدعم فكرة وجود استراتيجية تهدف إلى تضخيم منشورات محدودة بدلاً من خلق نقاش حقيقي.
أخيرًا، جرى تطبيق تقنيات اكتشاف المجتمعات الرقمية لتحديد التجمعات المنخرطة في تضخيم الوسم. ظهر بوضوح أن هناك عدة مجموعات منفصلة لكنها متداخلة، ما يشير إلى احتمالية وجود جهات أو كيانات متعددة تدفع الوسم باتجاهات مختلفة تشترك في الهدف نفسه: نشر رواية معينة وشحنها بالسلبية. هذا النمط من العمل الجماعي المنسق يكشف عن استراتيجيات التضليل الرقمي التي يمكن أن توجّه الرأي العام، وتحرف مسار النقاش نحو اتجاهات محددة. وقد أثبتت هذه المنهجية القائمة على التحليل الشبكي جدواها في تمييز الحملات التلقائية عن تلك المصطنعة والموجّهة، وساعدت على تفكيك الهيكل القائم وراء انتشار الوسم، ومعرفة الحسابات التي تقوده فعلياً من وراء الستار.
إعداد: شريف مراد