في عصر الإعلام الرقمي، أصبحت الصورة عنصراً أساسياً في نقل الأخبار، إذ تكفي لقطة واحدة مؤثرة لتغيير المزاج العام أو إثارة موجة من التفاعل عبر العالم. لكن الخطورة تكمن في أن الصورة، حتى وإن كانت حقيقية، قد تتحول إلى أداة تضليل إذا جرى عزلها عن سياقها الأصلي.
هذه الظاهرة تُعرف بـ"الصورة المعزولة عن سياقها"، وهي أكثر شيوعًا من الصور المفبركة أو المزيفة، لأنها لا تتطلب تقنيات معقدة للتلاعب، بل مجرد إعادة نشر في سياق مختلف. في هذا المقال سنحاول توضيح معنى هذا النوع من التضليل، وأسبابه، وأمثلة واقعية عليه، ثم نقدم خطوات عملية ونصائح للصحفيين ومدققي المعلومات لكشفه.
ما معنى "الصورة المعزولة عن سياقها"؟
المقصود بالصورة المعزولة عن سياقها هو استخدام صورة حقيقية مأخوذة في زمان أو مكان محدد، لكن إعادة نشرها في إطار مختلف كليًا. هنا لا يتم التلاعب بالمحتوى البصري نفسه، وإنما يتم التلاعب بالمعنى الذي يُفهم منه.
على سبيل المثال، انتشرت مقاطع فيديو قديمة لانهيارات أرضية وفيضانات في السعودية واليابان وإسبانيا ادعت زورا أنها صور لفيضانات ليبيا عام 2023، التي وقعت بسبب "انهيار سد درنة في ليبيا". في هذه الحالة، مقاطع الفيديو/الصور حقيقية تمامًا، لكن تم استخدامها بشكل مضلل تماماً، وهو ما يعطي الجمهور انطباعاً زائفاً عن ذلك الحدث.
الفرق الجوهري بين هذه الحالة وبين الصور المفبركة هو أن الأخيرة تُنتَج عبر برامج تعديل أو عبر الذكاء الاصطناعي، بينما "الصورة المعزولة عن سياقها" تعتمد على محتوى أصلي صحيح تم توظيفه بشكل خاطئ.
لماذا يلجأ البعض لعزل الصور عن سياقها؟
هناك عدة دوافع تقف وراء هذا النوع من التضليل:
إثارة العاطفة: الصور المؤثرة مثل مشاهد الأطفال أو الكوارث الإنسانية تحفّز مشاعر قوية لدى الجمهور، ما يزيد من الانتشار.
خدمة أجندة سياسية: أطراف في النزاعات قد يعيدون استخدام صور من أماكن أخرى لإقناع المتابعين بحجم مأساة أو إنجاز غير حقيقي.
البحث عن التفاعل: بعض الحسابات على وسائل التواصل تنشر صورًا قديمة لكنها "مؤثرة" للحصول على مشاهدات واعجابات دون التحقق من صحتها.
ضعف التحقق: في كثير من الأحيان لا يكون الهدف خبيثًا بالكامل، بل مجرد نشر متسرع من دون تدقيق.
نماذج شائعة
- الكوارث الطبيعية: عند وقوع زلزال أو فيضان في بلد ما، تنتشر صور قديمة لكوارث مشابهة في بلدان أخرى، لكن تُنشر على أنها من الحدث الحالي.
- الحروب والنزاعات: صورة من سوريا قد تُستخدم في أخبار عن غزة، أو صورة من أوكرانيا قد تُنسب إلى أحداث في السودان. هذا النوع من التضليل يستغل التشابه في الدمار والعنف.
- الأحداث المحلية: أحيانًا تُستخدم صور من مظاهرات قديمة في بلد عربي لتصوير احتجاجات حالية، رغم أن السياق الزمني مختلف.
هذه الأمثلة تبرز أن المشكلة واسعة الانتشار، وتزداد مع سرعة تداول المحتوى البصري على المنصات الاجتماعية.
أمثلة عملية
- السياق الحقيقي (2018): الصورة تُظهر فتاة سورية في مستشفى ميداني بالغوطة الشرقية وهي تمسك قناع أوكسجين على وجه طفلة أخرى بعد هجوم كيميائي يُشتبه أن النظام السوري نفذه في يناير 2018.
- آلية التضليل: استغلال الأثر العاطفي البالغ للصورة التي تجسد محاولة يائسة للنجاة، وربطها بالأحداث المأساوية في غزة لكسب التعاطف وتعميق السردية الإنسانية للصراع.
- المصدر (وكالة فرانس برس - AFP): هذه الصورة لم تلتقط في غزّة حديثاً بل هي لطفلة سوريّة في الغوطة الشرقيّة قبل سنوات
المثال الثاني: بطاقات شخصية في مصر وليست في العراق
- السياق المضلل (2023): صورة لبطاقات شخصية ملقاة على الأرض قيل إنها تعود لمواطنين عراقيين خلال فترة انتخابات مجالس المحافظات في ديسمبر 2023.
- السياق الحقيقي (2020): الصورة سبق تداولها في مصر خلال انتخابات مجلس النواب في نوفمبر 2020، وتُظهر بطاقات تحمل علم مصر وأسماء مناطق مصرية.
- آلية التضليل: إعادة تدوير صورة قديمة مرتبطة بانتخابات مصرية، ونشرها في سياق الانتخابات العراقية لتعزيز رواية عن بيع وشراء بطاقات الناخبين.
- المصدر (رويترز – خدمة تقصي الحقيقة): صورة قديمة لبطاقات شخصية ملقاة على الأرض في مصر، وليست في العراق
المثال الثالث: صورة قديمة من احتجاجات المغرب
- السياق المضلل (2021): صورة قيل إنها تعود لمظاهرات في المغرب ضد التطبيع مع إسرائيل عقب زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي للرباط في نوفمبر 2021.
- السياق الحقيقي (2019): الصورة في الواقع تعود إلى احتجاجات مدرسين في العاصمة المغربية الرباط ضد العقود محددة المدة بتاريخ 20 شباط/ فبراير عام 2019.
- آلية التضليل: استغلال صورة قديمة مرتبطة بمطالب نقابية محلية وإعادة نشرها في سياق سياسي جديد لإظهار احتجاجات حديثة ضد التطبيع.
- المصدر (مسبار): الصورة قديمة وليست من مظاهرات حديثة في المغرب
كيف يتم اكتشاف هذا النوع من التضليل؟
- التحقق البصري: انظر إلى تفاصيل دقيقة في الصورة مثل نوع الملابس، السيارات، اللافتات، أو حالة الطقس. هذه التفاصيل قد تكشف أن الصورة لا تنتمي إلى المكان أو الزمن المذكور.
- البحث العكسي عن الصور: عبر محركات البحث، يمكن العثور على النشر الأول أو الأقدم للصورة، وهو مؤشر قوي على سياقها الصحيح.
- التحقق من المصدر الأصلي: هل الصورة منشورة من وكالة أنباء أو مصور معروف؟ تتبع المصور أو الوكالة قد يقودك إلى الحدث الحقيقي.
- المقارنة مع وسائل إعلام موثوقة: راقب كيف تناولت مؤسسات صحفية كبرى الحدث. إذا لم يستخدموا نفس الصورة، فربما هناك مشكلة.
خطوات عملية للتحقق
- افحص تاريخ النشر الأول للصورة على الإنترنت.
- قارن الصورة مع الأخبار المنشورة في نفس التوقيت.
- لاحظ العلامات المميزة في الخلفية مثل المباني أو الكتابات.
- تحقق من حساب أو مصدر الناشر: هل هو حساب قديم وموثوق أم جديد ومجهول؟
نصائح للصحفيين ومدققي المعلومات
- لا تنخدع بالتأثير العاطفي للصورة. تحقق أولًا قبل إعادة النشر.
- عندما تكتشف تضليلًا، لا تكتفِ بالنفي، بل أعرض السياق الصحيح للصورة.
- قدّم للجمهور دائمًا تفسيرات واضحة تبين لماذا الصورة لا تنتمي إلى الحدث الجاري.
- اجعل من عادة غرفة الأخبار التحقق من الصور كما يتم التحقق من النصوص.
الصور المعزولة عن سياقها تمثل واحدًا من أكثر أشكال التضليل شيوعًا في العصر الرقمي. خطورتها تكمن في أنها قد تُستخدم بسهولة، دون أي تعديل تقني، لكنها تضلل ملايين الأشخاص بمجرد نشرها في توقيت أو مكان خاطئ.
المسؤولية هنا تقع على عاتق الصحفيين ومدققي المعلومات، ليس فقط لكشف زيف الادعاء، بل أيضًا لتصحيح السياق أمام الجمهور. لأن الصورة التي تُستخدم بشكل خاطئ قد تساهم في تشكيل وعي زائف، بينما الصحافة المسؤولة تملك القدرة على إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح.