Arabi Facts Hub is a nonprofit organization dedicated to research mis/disinformation in the Arabic content on the Internet and provide innovative solutions to detect and identify it.

أدوات “الهاسبارا” بعد السابع من أكتوبر: كيف يشكك الإعلام الإسرائيلي في الرواية الفلسطينية!

أدوات “الهاسبارا” بعد السابع من أكتوبر: كيف يشكك الإعلام الإسرائيلي في الرواية الفلسطينية!
tahaqaqps

The Author

tahaqaqps
[:ar]
أضحت الحروب تُخاض على الروايات بقدر ما تُخاض على الأرض. وهنا، تبرز "الهاسبارا" بوصفها إحدى الأدوات الدعائية المركزية في الاستراتيجية الإعلامية الإسرائيلية، إذ لا تُعد هذه المنظومة مجرد حملة علاقات عامة، بل مشروعًا دعائيًا طويل الأمد، يقوم على نفي حقوق الفلسطينيين، وتشويه واقعهم تحت الاحتلال، وتزييف سردياتهم أمام الرأي العام العالمي. ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بلغ خطاب "الهاسبارا" ذروته، إذ تصاعدت محاولات الإعلام الإسرائيلي -الرسمي وغير الرسمي- في بث روايات بديلة تسعى إلى تبرئة جيش الاحتلال من الانتهاكات، والتقليل من فظاعة الجرائم المرتكبة، والتشكيك في شهادات وتقارير الضحايا والجهات الحقوقية. في هذا السياق، تأتي أهمية تفكيك هذا الخطاب، وتحليل أدواته، بوصفه ضرورة لمواجهة التضليل الإعلامي، وتعزيز السردية الفلسطينية القائمة على الأدلة والمساءلة. أهمية تحليل خطاب الهاسبارا الإسرائيلي وأدوات التشكيك في الرواية الفلسطينية يسعى هذا التقرير إلى تفكيك أبرز الأساليب الدعائية التي وظفها الاحتلال الإسرائيلي، خاصة في الخطاب الإعلامي الموجّه بعد السابع من أكتوبر 2023، في سبيل التشكيك الممنهج في السردية الفلسطينية، ونزع الشرعية عن معاناة الضحايا المدنيين، وتقديم الاحتلال كجهة "أخلاقية" تمارس "الدفاع عن النفس"، رغم التوثيقات الحقوقية التي تؤكد ارتكابه جرائم ممنهجة. وتكمن خطورة هذا الخطاب في تأثيره المباشر على الوعي الدولي تجاه القضية الفلسطينية؛ لا سيما في ظل تسويق روايات إعلامية مدعومة بلغة قانونية وإنسانية مضللة.  إن تحليل هذا النمط من الدعاية لا يخدم فقط الصحفيين والحقوقيين في تفنيد الادعاءات، بل يعزز كذلك قدرة الجمهور الفلسطيني والدولي على التعامل النقدي مع المحتوى الإعلامي الإسرائيلي أو الموالي له، ويفتح المجال أمام مساءلة الاحتلال بدلاً من تبرير جرائمه. تطور الهاسبرا من النشأة إلى الفضاء الرقمي تعود جذور مصطلح "الهاسبارا" (Hasbara) إلى بدايات المشروع الصهيوني في أوائل القرن العشرين، حين استخدم الصحفي الصهيوني ناحوم سوكولوف المفهوم بمعناه العبري الأصلي: "الشرح" أو "التوضيح"؛ لكن هذا "الشرح" لم يكن محايدًا، بل وُظّف لتبرير السياسات الاستيطانية الصهيونية أمام المجتمع الدولي. بمرور الوقت، تطورت "الهاسبارا" من نشاط فردي إلى منظومة مؤسساتية متكاملة، خاصة بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حيث دخلت في إطار "الدبلوماسية العامة"، التي تشارك فيها: وزارات حكومية، السفارات، الجيش، إلى جانب منظمات غير حكومية، ومؤثرين عبر الإنترنت. ومع اتساع استخدام الوسائط الرقمية، تحولت "الهاسبارا" إلى أداة أكثر تنظيمًا وفعالية، إذ استثمرت إسرائيل بشكل مكثف في تقنيات الاتصال الرقمي، وأطلقت مبادرات مثل تطبيق Act.IL عام 2017، الذي يُكلّف مستخدميه بمهمات محددة تهدف إلى مواجهة الروايات المناهضة لإسرائيل عبر الإنترنت، من خلال تعليقات موجهة، أو تقييمات سلبية، أو تبليغات منسقة. وتُظهر هذه التحولات كيف أصبحت "الهاسبرا" أداة دعائية مركزية في إدارة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني؛ ليس فقط عسكريًا، بل سرديًا أيضًا. أدوات التشكيك وتفكيك السردية الفلسطينية في الحرب على غزة ضمن حملتها الدعائية بعد السابع من أكتوبر 2023، وظّفت إسرائيل سلسلة من الأدوات الإعلامية لتقويض الرواية الفلسطينية وتشكيك الجمهور الدولي في صدقيتها. ويتفرّع هذا المحور إلى عدّة أقسام رئيسة، على النحو الآتي: الرواية الرسمية كأداة نفي وتشكيك ممنهجة منذ الساعات الأولى للحرب، شكّلت الرواية الرسمية الإسرائيلية –عبر المتحدثين العسكريين والحكوميين– حجر الأساس في تقويض صدقية المصادر الفلسطينية، وقدّم الإعلام الإسرائيلي تلك الروايات باعتبارها "موثوقة"، بينما صُنّفت التقارير القادمة من غزة على أنها "دعاية" أو "ادعاءات غير مؤكدة". أحد أبرز الأمثلة على هذا النمط برز في مجزرة مستشفى المعمداني (17 أكتوبر 2023)، حيث سارع الناطق باسم الجيش الإسرائيلي إلى اتهام حركة "الجهاد الإسلامي" بالمسؤولية عن الانفجار، مستندًا إلى تسجيل صوتي مفترض ومصادر عسكرية لم يُقدَّم بشأنها أي توثيق مستقل؛ لكن سرعان ما واجهت هذه الرواية تشكيكًا واسعًا من قبل وسائل إعلام ومؤسسات دولية، إذ أظهرت تحقيقات صحفية أعدتها كل من هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي ،  ونيويورك تايمز عدم وجود دليل حاسم يثبت صحة الرواية الإسرائيلية. وإضافة إلى ذلك، أظهر تحقيق أعده " تحقّق" أن التغطية المباشرة لقناة الجزيرة وثّقت لحظة قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي المستشفى والمناطق المحيطة به، وهو ما أكدته -أيضًا- لقطات مصورة وثقها مواطن من شرفة منزله، تزامنًا مع وقوع الانفجار. كما روّجت جهات رسمية إسرائيلية، من بينها وزارة الخارجية الإسرائيلية، والمتحدث باسم جيش الاحتلال ادعاءات تزعم أن وزارة الصحة في غزة تتبع لـ"حماس"، وبالتالي لا يُعوّل على بياناتها. هذا الخطاب تبنّته جهات دولية، منها وزارة الخارجية الأميركية؛ لكن منظمات كالأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية أكدت أن بيانات وزارة الصحة معتمدة وموثقة منذ سنوات. ومن الأمثلة -أيضًا- اقتحام جيش الاحتلال مجمع الشفاء الطبيّ في نوفمبر 2023، بذريعة أنه يضمّ مقر قيادة تابع لحركة "حماس"، دون تقديم أي أدلة ميدانية حاسمة.  وقد أثارت "الأدلة" التي عرضها جيش الاحتلال لاحقًا موجة واسعة من السخرية والتشكيك، إذ عرض المتحدث باسم الجيش، خلال مؤتمر صحفي عُقد داخل مستشفى الشفاء بعد اقتحامه في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ورقةً تتضمن جدولًا لأيام الأسبوع، زاعمًا أنها توثق "نظام عمل الفصائل" داخل المستشفى. هذا "الدليل" أثار سخرية واسعة على منصات التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام دولية، واعتُبر مثالًا صارخًا على هشاشة السردية الإسرائيلية، التي افتقرت إلى أي قرائن ميدانية فعلية. وقد خلّف اقتحام المستشفى دمارًا واسعًا في أقسامه الحيوية، ما أدى إلى توقفه عن العمل بشكل شبه كامل آنذاك، وسط إدانات حقوقية ومطالبات بتحقيق دولي مستقل في الحادثة.

تبرير استهداف المدنيين بذريعة "وجود مقاومين": مجزرة مدرسة التابعين نموذجًا في إطار استراتيجيتها الإعلامية خلال عدوانها على قطاع غزة، دأبت إسرائيل على تبرير استهدافها للمدنيين والمرافق المدنية عبر الادعاء بوجود "نشاطات عسكرية" أو "مسلحين" في تلك المواقع. وقد تكرّر هذا النمط في عدة مجازر، أبرزها مجزرة مدرسة التابعين في حي الدرج بمدينة غزة، فجر العاشر من أغسطس/آب 2024، حين استهدفت طائرات الاحتلال المدرسة التي كانت تؤوي مئات النازحين، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 100 مدني، بينهم نساء وأطفال، وإصابة العشرات، بينما كان عدد من الضحايا يؤدون صلاة الفجر في مصلى المدرسة. لاحقًا، زعم جيش الاحتلال أن المدرسة كانت تُستخدم كمركز قيادة وتحكم تابع لحركة "حماس"، إلا أن هذه الرواية سرعان ما واجهت تشكيكًا واسعًا، خصوصًا مع غياب أي دليل مرئي أو صور جوية يقدّمها الجيش لتدعيم مزاعمه، على الرغم من اعتياده الاستناد إلى مثل هذه المواد في حالات مشابهة. وعقب المجزرة ، نشر المتحدث باسم جيش الاحتلال قائمة تضم 19 اسمًا، مدّعيًا أنهم "مقاومون" تم استهدافهم داخل "مقر عسكري" في المدرسة؛ غير أن تحقيقًا أعده مرصد "تحقق" وعدة منظمات حقوقية فند هذه الرواية، وأظهر أن بعض الأسماء تعود لشهداء سبق استهدافهم في غارات سابقة، من بينهم أحمد إيهاب الجعبري الذي استُشهد في قصف بتاريخ 5 ديسمبر/كانون الأول 2023، ويوسف الوادية الذي استُشهد قبل يومين من المجزرة، ومنتصر ضاهر الذي ارتقى يوم الجمعة 9 آب/أغسطس برفقة شقيقته، إثر استهداف شقة سكنية، أي قبل يوم واحد فقط من المجزرة، وتُضعف هذه المعطيات سردية "الاستهداف الدقيق" التي يروّج لها الجيش الإسرائيلي. كما شمل القصف الإسرائيلي لمصلى المدرسة عددًا من المدنيين المعروفين بنشاطهم الاجتماعي والتعليمي، ولا صلة لهم بأي عمل عسكري، منهم الشيخ محمد أبو سعدة مدير أوقاف غزة، والدكتور يوسف الكحلوت أستاذ في الجامعة الإسلامية، ومحمد الطيف أكاديمي ومدير مدرسة سابق، وعبد العزيز الكفارنة نائب رئيس بلدية بيت حانون، إضافة إلى ستة مدنيين آخرين، بعضهم معروف بمواقف معارضة لحركة "حماس".

التشكيك في الصور والمقاطع المصورة: مزاعم "الفبركة" و"التمثيل" دون أدلة اعتمد الإعلام الإسرائيلي عبر منصاته الرقمية، خلال الحرب، على التشكيك في مصداقية الصور والمقاطع المصورة القادمة من القطاع، من خلال الترويج لروايات تزعم أنها "مفبركة" أو "مسرحيات إنسانية" تهدف إلى كسب التعاطف الدولي. وبرز هذا الخطاب بشكل خاص في تغطية المجازر والانتهاكات، بالتزامن مع الانتشار الواسع لمشاهد الضحايا من الأطفال والنساء، التي أثارت موجات تعاطف واسعة مع الفلسطينيين حول العالم. كما روّجت وسائل إعلام إسرائيلية، إلى جانب حسابات داعمة للاحتلال على منصات التواصل الاجتماعي، مزاعم تشكك في صحة مقاطع تُظهر عمليات الإنقاذ أو لحظات وداع الشهداء، بزعم أن الأشخاص الظاهرين فيها "يمثلون" أو أن "الضحايا يتحركون"، دون أن تستند هذه الادعاءات إلى أي دليل تقني أو تحقيق بصري موثوق. في سياق مًتصل، برزت خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة حملتا "باليوود" (Pallywood) و"غزة وود" (GazaWood)، كامتداد لخطاب تشكيكي قديم وممنهج، يهدف إلى نزع المصداقية عن المحتوى الإنساني القادم من القطاع. ويعود استخدام مصطلح "باليوود" إلى حروب سابقة شنّها الاحتلال على غزة، غير أن ظهوره تكثّف بصورة لافتة خلال الحرب الجارية، وترافق مع وسم "غزة وود"، الذي أطلقته حسابات إسرائيلية وغربية لتصوير معاناة الفلسطينيين على أنها "مفبركة" أو "تمثيلية"، في محاولة لتجريد الضحايا من إنسانيتهم والتشكيك في صدقية الرواية الفلسطينية. وقد عمل المرصد الفلسطيني "تحقق" على تدقيق وتفنيد عشرات الادعاءات التي طعنت في صحة مشاهد إنسانية موثقة، من أبرزها: في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني  2023،  تداولت حسابات إسرائيلية وغربية مقطعًا لجريح داخل مستشفى ناصر في غزة، مدعية أنه "مشهد تمثيلي"، بزعم أن "حتى والدته لم تصدقه". غير أن التحقق أظهر أن الفيديو حقيقي، ويوثّق لحظة طمأنة الجريح لوالدته بعد إصابته، وفقًا لمصوّر الفيديو الصحفي محمد عوض. كما نشر حساب إسرائيل بالعربية في 31 آب/ أغسطس 2024، مقطعًا لطفلة مصابة في مستشفى شهداء الأقصى، زاعمًا أنه تمثيلي؛ إلا أن  تدقيق "تحقق"  كشف أن المشهد حقيقي ويوثق لحظة إسعاف الطفلة بعد قصف استهدف منطقة قرب مدرسة للنازحين شرق دير البلح. وفي 16 مايو/أيار من العام نفسه، تداولت حسابات، عبر منصة إكس، مشهد من فيلم وثائقي بعنوان "العهد" يعود إنتاجه إلى عام 2021، ويعرض جهود الدفاع المدني في غزة، باعتباره "مشهدًا مفبركًا من الحرب الحالية". بينما أظهر التحقق أن الفيديو منشور منذ سنوات ولا يمتّ بصلة للأحداث الجارية. وفي سياق التشكيك في حقيقة المجازر الإسرائيلية، نشرت حسابات إسرائيلية وأخرى داعمة، مقطع فيديو في 9 مايو/ أيار 2025 من موقع مجزرة المطعم التايلندي، زعمت  فيه أن الدماء الظاهرة على الطاولة مجرد "كاتشب"، في محاولة للتشكيك برواية المجزرة؛ إلا أن تدقيق "تحقق" أكد صحة الفيديو، ووثق استشهاد 33 مدنيًا أثناء تناولهم الطعام في المطعم المستهدف. حسابات إسرائيلية تستغل صور الذكاء الاصطناعي لتقويض الرواية الفلسطينية في أعقاب المجزرة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق عائلة الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار في خانيونس، والتي أسفرت عن استشهاد أطفالها التسعة، واستشهاد زوجها -لاحقًا- متأثرًا بإصابته في ذات المجزرة، بدأت تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي صور، قيل إنها توثق لحظة وداع النجار لأبنائها.  إلا أن تدقيق "تحقق" كشف أنها غير حقيقية، وقد جرى توليدها باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، وأظهرت نتائج التحقق أن نسبة إنتاجها بالذكاء الاصطناعي تصل إلى 99%، وأكد صحفيون ميدانيون من غزة، بينهم طارق دحلان، أن الطبيبة ترتدي النقاب ولم تظهر في الإعلام، ما ينفي صحة الصور المتداولة. في هذا السياق، حذر الخبير في التربية الإعلامية والرقمية بركات الزيود، من مخاطر استخدام الصور المولّدة بالذكاء الاصطناعي في توثيق القضايا الإنسانية، معتبرًا أنها تُضعف التأثير الحقيقي للواقع، وتنطوي على إساءة لكرامة الضحايا، وقد تؤدي إلى تضليل الجمهور وتجميل المأساة. لكن اللافت أن حسابات إسرائيلية سارعت إلى إعادة نشر هذه الصور، مرفقة بتعليقات ساخرة مثل "صدقها الحمقى"، مدّعية أن الفلسطينيين يلفّقون قصصًا إنسانية باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي؛ وتُظهر هذه الحادثة نمطًا متكررًا من استغلال الاحتلال لمحتوى مفبرك سواء نُشر من جهات متضامنة بجهل أو من حسابات مجهولة المصدر ليُستخدم لاحقًا كأداة للتشكيك في صدقية المعاناة الفلسطينية وتصويرها كخدعة إعلامية، ما يعكس استراتيجية منظمة تهدف لتقويض الرواية الفلسطينية والتشويش على الحقائق الدامية التي توثّقها العدسات من قطاع غزة. إنكار الإبادة الجماعية والتجويع: التلاعب بالمصطلحات وتزييف الوقائع في ظل تصاعد الاتهامات الدولية لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة، برز خطاب إعلامي إسرائيلي يهدف إلى نفي هذه التهم أو إعادة تأطيرها لغويًا، من خلال التلاعب المنهجي بالمصطلحات وتزييف الوقائع. ويُستخدم هذا الخطاب لتبرير ممارسات ميدانية موثقة، لا سيما ما يتعلق بسياسات التجويع والحرمان من المساعدات الإنسانية. ومنذ اندلاع الحرب، أشارت تقارير أممية ومنظمات حقوقية إلى أن إسرائيل تستخدم الحصار والتجويع كأدوات حرب، عبر عرقلة إدخال المساعدات، واستهداف منشآت الإغاثة، وتقييد حركة القوافل الإنسانية. ورغم هذه الشهادات الدولية، واصل الإعلام الإسرائيلي والخطاب الرسمي إنكار هذه الانتهاكات، من خلال الزعم بوجود "تدفق مستمر للمساعدات"، وتحميل المسؤولية لحركة "حماس" أو لسكان غزة أنفسهم، بادعاءات حول "الفوضى" أو "نهب الشاحنات"، ما يشكل محاولة لصرف الأنظار عن السياسات الممنهجة التي وثّقتها هيئات رقابية مستقلة. في أكثر من مناسبة، استخدمت إسرائيل منصاتها الرسمية، مثل حساب "إسرائيل بالعربية" و"الناطق باسم الجيش"، لعرض مقاطع فيديو تُظهر إسقاط مساعدات جوية أو دخول شاحنات إغاثة، دون الإشارة إلى السياق الكامل، بما في ذلك ضآلة كمية المساعدات مقارنة بالحاجة الفعلية، أو استهداف نقاط الاستلام وتجمعات الجوعى. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، "مجزرة دوار النابلسي" شمال قطاع غزة في 29 فبراير/شباط 2024، التي أسفرت عن استشهاد أكثر من 110 مدنيين أثناء محاولتهم الحصول على الطحين. سياسيًا، سعت إسرائيل إلى تجنّب مصطلح "الإبادة الجماعية" عبر إعادة توصيف العدوان بأنه "حرب على الإرهاب" أو "عملية لتحرير الأسرى"، في مسعى لنزع الصفة المدنية والإنسانية عن الفلسطينيين. وتبنّى هذا الخطاب مسؤولون رسميون، من بينهم رئيس الوزراء ووزراء في الحكومة، حيث حمّلوا الفلسطينيين مسؤولية معاناتهم، من خلال ترويج مفاهيم مثل "الموت الاختياري" أو "الاستخدام كدروع بشرية"، في محاولة لتبرير نتائج العدوان ونزع صفة الإبادة عنها. ولا يمكن فهم هذا الخطاب بمعزل عن السياق الدعائي العام، إذ يمثل التلاعب بالمصطلحات أداة مركزية في استراتيجية "الهاسبرا"، التي تهدف إلى تقويض السرديات الحقوقية، وتفريغ المفاهيم القانونية مثل "الإبادة الجماعية" من مضمونها، وخلق مسافة عاطفية بين الجمهور الدولي والواقع الميداني في غزة.   تحليل الخطاب الدعائي للمتحدث باسم جيش الاحتلال: سردية "الجيش الأخلاقي" وتزييف الوقائع في ظل تصاعد الحروب الإعلامية وتنامي تأثير المنصات الرقمية في تشكيل الرأي العام، تبرز أهمية تحليل الخطاب كأداة لفهم البنية الدعائية التي تعتمدها الأطراف المتنازعة، خصوصًا في النزاعات الممتدة والمعقّدة مثل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. ويُعد خطاب المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، باللغة الإنجليزية، على منصة X، نموذجًا بارزًا لهذا النوع من الخطاب الموجّه، نظرًا لاستهدافه المباشر للرأي العام الغربي، ومحاولته التأثير في مواقف الحكومات والمؤسسات الإعلامية الدولية.   تحليل كمي ونوعي باستخدام أدوات رقمية أجرى فريق "تحقق" تحليلًا كميًا ونوعيًا لمحتوى التغريدات المنشورة عبر الحساب الرسمي للمتحدث باسم جيش الاحتلال باللغة الإنجليزية على منصة X، خلال الفترة الممتدة من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وحتى مايو/ أيار 2025. وجرى تحليل ما يزيد عن 4,200 كلمة باستخدام تطبيق Voyant Tools، وهو أداة مفتوحة المصدر لتحليل النصوص، متوفرة عبر مكتبة جامعة كاليفورنيا. أظهرت نتائج التحليل اعتمادًا منهجيًا على مفردات ذات طابع تبريري، تُعيد تأطير الوقائع ضمن أطر قانونية وأخلاقية مزعومة، تخفي الانتهاكات تحت مصطلحات مثل "الدقة"، "الاستهداف المشروع"، و"محاربة الإرهاب".   البنية السردية للخطاب وتكرار القوالب الدعائية تبيّن من التحليل أن تغريدات المتحدث الإسرائيلي تتبع بنية سردية شبه ثابتة، تُعاد صياغتها بشكل متكرر وفق قالب دعائي محدد، غالبًا ما تبدأ التغريدات بعبارات مثل: "كنا نراقب الموقع"، "نملك أدلة"، "نفذنا ضربة دقيقة"، أو "تم تحييد إرهابيين"، ثم تُختتم بالتأكيد على أن الموقع المستهدف كان منشأة مدنية –مستشفى، مدرسة، أو مخيم– مع اتهام حركة حماس باستخدام المدنيين كـ"دروع بشرية". هذا النمط ليس عفويًا؛ بل يشكّل جزءًا من استراتيجية دعائية تسعى إلى تسويق صورة "الجيش الأخلاقي" أمام الرأي العام الغربي، مقابل نزع الشرعية عن الفلسطينيين واتهامهم بتوظيف مؤسساتهم وسكانهم في خدمة ما يُوصف بـ"الإرهاب". وتدعم هذه البنية السردية نتائج التحليل الكمي التي أظهرت تكرارًا ملحوظًا لمجموعة من المفردات المحددة، مثل: precision, legitimate target, evidence, terrorists, Hamas, human shields, military operation، وهي مفردات تشكّل جوهر الخطاب الدعائي الإسرائيلي، وتُستخدم لتضليل الجمهور الغربي وإعادة صياغة الواقع الميداني بما يخدم الرواية الرسمية.
[:]