تقرير: أحلام حماد
بجسد هزيل أنهكه المرض ويفتك به الجوع، تجوب الفلسطينية العشرينية دلال أبو عاصي شوارع المحافظة الوسطى من قطاع غزة، وهي تدفع أمامها طفليها المريضين على كرسي متحرك، بحثا عن أي طعام يسكن آلامهم وأوجاعهم.
تبدأ هذه الأم (29 عاما) يومها الشاق مع بزوغ الشمس، وتقول إنها تنطلق عند الساعة السادسة صباحا من خيمتها في مخيم المغازي للاجئين وسط القطاع، وتسير في شوارع وأزقة المحافظة على غير هدى لا تعلم لها وجهة محددة، بينما تدفع أمامها كرسيا متحركا تقل عليه طفليها أماني (عامان) وحمزة (4 أعوام)، ويعانيان من مشكلات صحية مختلفة تلازمهما منذ الولادة.
وتعاني دلال نفسها منذ سنوات من مرض سرطان الثدي، وتعيش حياة بائسة منذ اندلاع الحرب على غزة، في السابع من تشرين الأول من العام 2023.
حياة بائسة
في الأيام الأولى للحرب نجت أبو عاصي وطفليها من غارة جوية، على برج سكني تقيم به في منطقة "جباليا البلد" شمال القطاع، وتسببت في دمار شقتها السكنية المتواضعة بكل محتوياتها (..) "خرجنا من بين الركام والغبار بهذه الملابس فقط"، تقول أبو عاصي وهي تشير إلى ملابسهم الرثة.
هذه الأم تعيل طفليها بمفدرها بعد طلاقها، وإثر قصف البناية السكنية التي كانت تقيم بها، خاضت تجربة النزوح المريرة برفقتهما نحو 7 مرات، تنقلت خلالها ما بين مناطق جنوب القطاع ووسطه، حتى محطتها الحالية في خيمة مهترئة في ساحة مدرسة تحولت لمركز إيواء مكتظ عن آخره بالنازحين.
ليس لهذه المرأة وطفليها من معيل أو مصدر دخل، وتقول إنها لا تمتلك في خيمتها سوى فرشتين وأغطية قديمة، حصلت عليها بتبرع ممن تصفهم بـ "أهل الخير"، وعبوة بلاستيكية للمياه تستخدمها لتعبئتها بمياه الشرب.
"والله إنني أصبحت أتمنى الموت في كل لحظة. أشعر بقهر وعجز شديدين، ويكاد قلبي ينفطر على صرخات أماني وحمزة طلبا للطعام، ولأ أجد ما أقدمه لهما وأسد به جوعهما"، تقول أبو عاصي بلسان مرتجف وعيون دامعة.
وبكلمات اختلطت مع بكائها المرير، تضيف: "أخرج منذ الصباح بحثا عن الطعام وأعود آخر النهار لهذه الخيمة البائسة، وقد فشلت محاولاتي في إطعام أطفالي .. نحاول النوم بصعوبة وفي كل مرة أعدهما كذبا بأنني سأطعمهما في الصباح".
تجويع حتى الموت
تجوب أبو عاصي بطفليها وعبوتين بلاستيكيتين صغيرتين معلقتين بالكرسي المتحرك، على مخيمات نزوح ومراكز إيواء بحثا عن تكية خيرية لا تزال تعمل، حتى تحصل على القليل من الطعام، لكنها غالبا ما تعود إلى خيمتها خاوية الوفاض، وقد أنهكها التعب والسير لمسافات طويلة في ظل طقس صيفي حار.
وخرجت أغلبية التكايا الخيرية والمطابخ المجتمعية عن الخدمة، إما جراء الاستهداف المباشر لها بالقصف، أو نتيجة الحصار الخانق وعدم توفر المواد والسلع اللازمة للطبخ وإعداد الطعام، منذ تشديد الحصار وإغلاق المعابر ومنع إدخال الإمدادات الإنسانية في 2 آذار الماضي.
ويوثق المكتب الإعلامي الحكومي استهداف الاحتلال 42 تكية خيرية، و57 مركزا لتوزيع المساعدات والغذاء، علاوة على 121 مرة استهدف فيها الاحتلال قوافل المساعدات والإرساليات الإنسانية.
وتقول أبو عاصي: "الكل في غزة يعاني من الجوع، ومشاهد النساء والأطفال في الشوارع تبكي الصخر، والعالم لا يزال يشاهدنا نموت من دون أن يتحرك لمنع جريمة القتل الجماعي".
وتروي بحزن شديد موقفا محرجا تعرضت له عندما لجأت إلى خيمة طلبا لكسرة خبز لتهدئة بكاء طفليها، وكانت لأسرة مكونة من 9 أفراد أقسم الرجل وزوجته أنهما لم يتذوقا وأطفالهما أي طعام منذ يومين.
لا دواء ولا غذاء
لا تدرك أبو عاصي عدد الأيام التي مضت على هذه الحرب، وحسبما تقول فإنه لم يعد يشغل بالها الموت والقصف، والانفجارات التي لا تتوقف ليلا أو نهارا، ويسيطر عليها القلق على مصير طفليها من الموت جوعا، وهي تشاهدهما يتألمان من الجوع والمرض معا، حيث لا غذاء أو دواء، وحتى الماء لا يتوفر بسهولة.
ومررت يديها على جسدها بعصبية وحرقة، وتساءلت: "أين العالم والإنسانية من امرأة مثلي مريضة بالسرطان، ولم تجد ماء لتستحم منذ أربعة شهور؟".
قبل اندلاع الحرب كانت هذه المرأة المريضة تتلقى علاجا في مستشفى الصداقة الفلسطيني التركي الوحيد المخصص لعلاج أمراض السرطان والأورام في القطاع، وقد خرج عن الخدمة، إثر استهدافه المباشر من قبل قوات الاحتلال. تتساءل أبو عاصي بحسرة شديدة: "أي حياة هذه التي نعيشها في غزة، لا ماء ولا غذاء ولا دواء .. نحن أموات وننتظر الدفن فقط".
ويعاني طفلها حمزة من مشكلات صحية عدة أثرت على قدرته على الحركة والنطق، فيما تعاني طفلتها أماني من مرض بالدماغ ومشكلات صحية بالبصر، وتحتاج عملية جراحية دقيقة في عينيها، تشير والدتها إلى أن الأطباء أخبروها أنها غير متوفرة في مستشفيات القطاع.
ويحتاج طفلا أبو عاصي لحفاضات صحية، تشير إلى أنها شحيحة للغاية في الأسواق، وأسعارها باهظة جدا، وتضطر إلى استخدام أكياس بلاستيكية بديلة عنها، تسببت لهما بالتهابات ومضاعفات جلدية.
وتعصف بزهاء مليونين و300 ألف نسمة في القطاع المحاصر مجاعة حادة، تشير بيانات وزارة الصحة إلى أنها تسببت حتى كتابة هذا التقرير بوفاة 175 فلسطيني من بينهم 93 طفلا.