تقرير: نسمة حسن
في خيمة صغيرة قرب الحدود الشرقية لمدينة رفح تجلس أم خالد (38 عامًا) على قطعة إسفنج مهترئة، تمسك بيد طفلها الصغير وتحاول تهدئته، بينما في يدها الأخرى قطعة كرتون دوّنت عليها الحروف الأبجدية. تقول بصوت خافت تغلبه الصلابة:
"أنا مش مدرسة، بس لازم أعلّم ولادي وغيرهم. الحرب أخدت مدرستهم، بس ما أخدت حقهم في التعليم".
أم خالد لم تنتظر منظمة دولية ولا مبادرة محلية، اقتطعت جزءًا من خيمتها المتهالكة لتقيم فيه "صفًا مصغرًا"، يستقبل كل يوم ما يزيد عن 12 طفلًا، تعلمهم فيه القراءة والكتابة وبعض الحساب. الحصص تُدار بكرتون وقلم فحم، والسبورة قطعة خشب وجدت بين الركام.
تضيف بابتسامة حزينة:
"الولد مش بس محتاج ياكل، محتاج يشعر إنه لسه في شي اسمه حياة".
فرن الحطب... من رماد البيت إلى رغيف الخبز
في مخيم أقيم حديثًا شمال خانيونس، اسعدنا لقاء أم حسام (41 عامًا)، التي أعادت الحياة إلى فرن كهربائي قديم كان مدفونًا تحت أنقاض منزلها في بيت حانون. بعد أن فقدت المطبخ والغاز وكل أدواتها، لم تستسلم:
"جبته من تحت الردم، غسلته بالتراب والمية، وركبته على قاعدة حجر... وبديت أشغل فيه بالحطب".
لم يكن سهلًا إشعال النار، ولا توفير الحطب، لكنها استخدمت أعواد الأشجار الميتة وقصاصات الكرتون المبلولة بمعقم صنعته بنفسها من الكحول والملح والليمون المجفف، ليكون وقودًا يساعدها على الإشعال:
"خبزنا فيه، وطبخنا عدس وبرغل، وصرنا نطعم الجيران كمان... الحارة كلها بتستنّى يومي أنا أشعل فيه الفرن".
وجبة من العدس والمعكرونة... وبديل عن الطحين
تجلس سلوى (29 عامًا)، وهي أم لثلاثة أطفال، على حجر قرب خيمتها في دير البلح، تطحن المعكرونة باستخدام حجر الرحى اليدوي الذي استعان به زوجها من بيت جده المهدم.
"الطحين خلص من أول شهر... ما ضل عندنا إلا شوية معكرونة ناشفة، جرشناها وعملنا منها خبز... طلع ناشف، بس بيشبع".
ابتكرت سلوى أيضًا وصفة بديلة لـ"الدقة"، غذاء الفقراء في غزة، مستخدمة العدس المجروش، الفلفل، القليل من الملح، وبرغل كان مخزونًا قبل الحرب.
"الولاد صاروا يحبوا الطعم... ما ضل زيت ولا سماق، بس إحنا بنحاول نوفر لهم إحساس إنهم مش محرومين من كل شي".
إشعال النار بالابتكار
ميسون (22 عامًا)، طالبة جامعية لم تكمل تخرجها بسبب الحرب، صنعت مزيجًا بسيطًا من مواد متوفرة داخل المخيم ليستخدم كمُعقّم وكوقود لإشعال النار:
"خلطت كحول مع قشر برتقال ويعني أشياء متوفرة. صرت أوزعها على الجيران، لأنه الفحم والغاز خلص، وإشعال النار صار مشكلة".
ابتكارها لاقى قبولًا واسعًا، وأصبح بعض النساء يعتمدنه في الطهي والتدفئة أيضًا. لا تبحث ميسون عن مقابل، بل عن شعور بأنها ما زالت قادرة على أن تكون مفيدة.
نساء تحت النار... وأيديهن تصنع الحياة
هذه الشهادات من نسج الخيال، بل من قلب الخيام والأنقاض. نساء فقدن كل شيء تقريبًا، لكنهن لم يفقدن حيلتهن ولا أملهن ولا قدرتهن على "الاختراع" من اللاشيء.
تقول أم خالد في نهاية حديثها، وهي تنظر إلى الأطفال المتحلقين حولها:
"إحنا مش بس صامدين... إحنا بنخلق طرق نعيش فيها. الحرب بدها تقتل كل شي فينا، بس إحنا بنقاومها بكل الطرق... حتى بالكرتون".
من غزة، حيث يتحوّل الرماد إلى فُرص، والوجع إلى طاقة، تثبت النساء كل يوم أنهن عماد البقاء، وصاحبات البصمة الأقوى في معركة لا تنتهي.