مجتمع التحقق العربي هو منظمة بحثية غير ربحية معنية بدراسة الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة باللغة العربية على الانترنت، وتقديم الحلول الرائدة والمبتكرة لرصدها

التعرف على جثامين المفقودين في غزة:معركة ضد النسيان

التعرف على جثامين المفقودين في غزة:معركة ضد النسيان
kashif_ps

الكاتب

kashif_ps

تقرير: سعدية عبيد

"لو أعرف إنه بمكان خطر، بروح أجيبه، حي أو ميت... المهم أعرف وينه." بهذه العبارة تختصر إكرام الأسطل مأساة عائلتها، التي لا تزال تبحث عن ابنها  "عودة بشير الأسطل" منذ مساء السادس والعشرين من شباط الماضي، حين خرج من خيمته في منطقة المواصي غرب خان يونس ولم يعد. منذ ذلك اليوم، تتردد أنفاس العائلة بين رجاء مستحيل وخوف قائم. 

عودة، الشاب ذو الـ23 عامًا، من ذوي الاحتياجات الخاصة، كان معروفًا بهدوئه وطيبته، وبترديده اليومي لعبارة "خير من عند الله". تقول إكرام: "غيابه صار ثقبًا أسود في حياتنا، لا منام ولا أمان، ورغم بحث العائلة في كل مكان: المستشفيات، ثلاجات الموتى، سجلات المفقودين، وحتى مواقع التواصل، لم يظهر له أثر.” 

" اليوم بس بفكر، يا ترى أكل شرب؟ يا ترى هو بخير ؟" 

مشرحة ناصر: خط الدفاع الأخير عن كرامة الموتى 

في زاويةٍ تعاني من قلة الإمكانيات وكثرة الوجع، يعمل د. أحمد ضهير، مدير الطب الشرعي، ومعه فريق من الأطباء والأخصائيين، لمحاولة إعطاء كل جثمان مجهول هوية، فرصة للتعريف، والتوثيق، وربما اللقاء مع ذويه.

يقول د. ضهير: "كل جثة مجهولة تمر بـ48 ساعة انتظار داخل المشرحة قبل دفنها، ننتظر أي محاولة من الأهل للتعرف عليها. نوثّق كل شيء: الملابس، العلامات الفارقة ، الصور، حتى الظروف المحيطة بمكان العثور."

ويتابع: "لكن في ظل العدد الكبير وصعوبة التعرف، نضطر للدفن في “فسقيات” بسبب نقص المقابر ، ويتم توثيق كل شيء، بمساعدة الأوقاف أو جمعيات مثل قرطون، مع تسجيل موقع الدفن عبر GPS إن أمكن." 

بين الطب الشرعي والأدلة الجنائية: الجثة قصة لها ملف ورمز 

المقدم سامح حسين حمد، مدير الأدلة الجنائية في محافظة خان يونس، يصف الأمر بأنه "ليس مجرد جثة... بل رواية يجب أن تُفهم قبل أن تُدفن".

في شهادته، يوضح حجم التعقيد: "نوثّق كل شيء قبل رفع الجثة: موقعها، مقتنياتها، الملابس، العلامات، نصورها بالكامل، ثم تُعطى رقمًا ورمزًا خاصًا، يُحفظ ضمن أرشيف رقمي وورقي. كل ذلك بإنتظار أن يتعرف أحد ما، في يومٍ ما، على هذا المجهول."

لكن التحديات ضخمة. "لدينا أكثر من ألف ملف لمجهولين، كل ملف فيه من 10 إلى 15 صورة. كل يوم نستقبل من 15 إلى 20 حالة مفقود. لا مكان مخصص لاستقبال الأهالي، لا بنية تحتية تليق بحجم المهمة." 

من الميدان إلى المشرحة: المهام المزدوجة في وقت الحرب 

المقدم سامح يروي ميدانًا آخر للعمل: "في كثير من الأحيان نخرج مع الدفاع المدني إلى أماكن خطرة لجمع الجثامين، مثل ما حدث في مفترق ميراج. عملنا لا يقتصر على التوثيق داخل ناصر، بل يبدأ من مسرح الحادث. نصور، نوثق، نسجل الملاحظات، ثم نتابع كل حالة حتى حفظها في السجلات."

ويوضح: "أحيانًا نضطر لنشر صور الجثامين واضحة المعالم عبر مواقع التواصل لمنح فرصة لأهلهم للتعرف عليهم، خاصة عندما لا يراجعنا أحد."

ورغم الجهد الكبير، إلا أن الجميع يدرك أن التقنيات المتوفرة محليًا محدودة. يقول د. ضهير: "نفتقر للمختصين في علوم الأسنان والعظام والاستعراف الجنائي المتقدم، لذلك نحاول الحفاظ على الأدلة، آملين بتعاون دولي مستقبلي يمكن أن يساعد في كشف هوية من لا يزالون مجهولين." 

"عودة"... حين يصير الإنسان سؤالًا 

قصة "عودة بشير الأسطل" ليست استثناء، بل نموذجًا يختصر المأساة المستمرة: مفقودون بلا أثر، عائلات تبحث في كل مكان، ومسؤولون يبذلون جهدًا أكبر من إمكانياتهم.

لكن وسط هذا كله، تظل المعضلة الكبرى قائمة: الزمن لا ينتظر. التحلل يتقدم، الإمكانيات تتناقص، والعدد يتضاعف. وبين مشرحات مكتظة، وملفات مزدحمة، وذاكرة مثقلة بالصور، يواصل الفريق جهده في معركة ضد النسيان. 

"عودة" قد يكون اليوم مجرد رقم بين آلاف الأرقام، لكن في قلب عائلته، هو الحياة نفسها. وفي سجل الوطن، هو جرح مفتوح، لا يُغلق إلا باليقين.