مجتمع التحقق العربي هو منظمة بحثية غير ربحية معنية بدراسة الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة باللغة العربية على الانترنت، وتقديم الحلول الرائدة والمبتكرة لرصدها

المستشار الذي هرول خلف “الحياة” في سيارة مياه

المستشار الذي هرول خلف “الحياة” في سيارة مياه
kashif_ps

الكاتب

kashif_ps

تقرير: صباح السقا

بهندام متواضع حل مكان بدلته الأنيقة، وخطوات تهرول خلف سيارة مياه الشرب، بدلا من الخطوات الواثقة في أروقة المحاكم، مدافعا عن موكليه ساعياً خلف تحقيق العدالة، هذا ما تركته الحرب من أثر، على حياة المستشار القانوني غانم العطار، الذي ضجت صفحات التواصل الاجتماعي مؤخرا بصورته.

العطار الذي كان صوته يعلو بتقديم الحجة والبرهان، ويخفت حين يواسي مظلوماً، لم يكن مجرد مستشار قانوني، بل كان أكاديمياً ذو قامة كبيرة، حتى بدلت الحرب حاله، كما بدلت حال كل غزة، بأهلها وناسها وشوارعها وأزقتها.

العطار هو ابن قرية العطاطرة شمال غزة، خرج من سجون الاحتلال عام 1993 حاملاً حلماً عنوانه العلم، فدخل الجامعة، وتدرج في دراساته حتى بلغ أعلى درجات القانون، وفتح مكتباً خرّج منه محامين ووكلاء نيابة وقضاة، واستمر في التنقل بين القضايا كمن يحرث الأرض بحثاً عن العدالة ومساندة المستضعفين.

يقول الرجل الذي عرفه الناس على أنه صاحب مبدأ قبل أن يكون رجل قانون: "كانت إذا وصلتني قضية لمظلوم، وتأكدت من مظلوميته، لا آخذ أتعابي حتى يحصل على حكم لصالحه. العدالة أولًا، ثم يأتي كل شيء بعدها".

لكن الحرب لا تطرق الأبواب، بل تقتحمها دون استئذان، ففي لحظة، انهار كل شيء، ووجد العطار نفسه أمام صدمة هدم بيته، والإجبار على مغادرة مسقط رأسه تحت وطأة القصف والموت، ليبدأ مسلسل النزوح بين غزة ودير البلح ورفح، حتى استقر في خان يونس، يحمل معه حقيبة من الذكريات، ووجعاً لا يُحتمل.

وعن مرارة النزوح يحكي العطار: "الهجرة مؤلمة جدًا على الإنسان الحر، شعرت بها كما شعر بها النبي محمد عليه السلام حين هاجر من مكة إلى يثرب، وكما أجبر النبي على الهجرة تحت أذى الكفار ومكرهم، اضطررت أنا ومعي الكثير من أبناء شعبي للهجرة تحت أذى الاحتلال وجرائمه بحقنا".

لكن الهجرة لم تكن الصدمة الكبرى، ففي 25 أيار 2024، تلقى خبراً كسر قلبه: استشهاد ابنته وستة من أحفاده في قصف طال خيام النازحين في منطقة البركسات شمال رفح، وعن وجعه تلك اللحظة يقول: "كنت أظن أنني فقدت كل شيء، لكن لا شيء يُقارن بفقدان ابنتي وأحفادي".

المجاعة التي جرّدت المقامات

بعد استئناف الحرب في آذار 2025، لم يكن الدمار وحده ما ينهش غزة، بل المجاعة الممنهجة التي فرضها الاحتلال بدرجة غير مسبوقة.

ويستعرض بنود القانون الدولي: "المادة 55 من معاهدة جنيف الرابعة، والمادة 57 من ذات المعاهدة، تلزمان القوة المحتلة بتوفير الحماية والماء والطعام والدواء للمدنيين، لكن الاحتلال لا يعترف إلا بقانون القوة".

لم تكن هذه مجرد بنود قانونية بالنسبة له، بل كانت صرخته في وجه عالم صامت وهو يعدد خروقات الاحتلال، بين استهداف المدنيين العزل، وتدمير البنى التحتية الصحية والعلمية، وقصف الآبار ومحطات التحلية، وقطع خطوط المياه، وإغلاق المعابر، وتجريف المحاصيل الزراعية، وغيرها من الجرائم التي تنطلي تحت لواء الإبادة الجماعية.

كل ذلك اجتمع ليحدث تحولاً عميقاً في حياته، ويجرده من مقامه الاجتماعي، ليصبح مضطراً لتلبية احتياجاته الأساسية بطريقة لا تليق بمكانته: "تحولت من رجل قانون إلى رجل يركض خلف شربة ماء، لم أعد أعرف على نفسي".

الركض خلف الحياة

قبل عدة أيام، وثق مقطع فيديو لحظة ركض المستشار العطار خلف سيارة مياه للشرب. لم يكن يعلم أن أحدهم يصوّره، ولم ينتبه إلا بعد يوم من نشر المقطع؛ لكن ردة فعله لم تكن خجلاً، بل فخراً: "بعد ما كنت عليه قبل الحرب، أضحى شغلي الشاغل انتظار قدوم سيارة مياه، فأركض خلفها ومثلي الكثير من الناس، لكن هدفي لم يكن فقط الحصول على جالون ماء لأكثر من ست عائلات أرعاها من الأبناء والأحفاد، بل القيام بواجبي في توعية الناس وتنظيم المجتمع".

ويتطوع العطار لإمساك خرطوم المياه، ينظم الطابور، يوجه الناس لاحترام بعضهم البعض، ويحثهم على الوقوف بانتظام: "ركضي في الفيديو لم يكن نحو الماء فقط، بل نحو القيم التي أؤمن بها. كنت أركض خلف النظام، خلف الكرامة، خلف ما تبقى من إنسانيتنا".

إرث الماء وذاكرة البئر

في لحظة تأمل، يستحضر العطار بئر المياه الذي حفره والده قبل عقود، من أجل توفير الماء للجيران وتوزيعها لوجه الله دون مقابل:"دمرت الحرب البئر، وانقلب حالي من شخص كان يوفر المياه لعشرات الأسر من الأهل والجيران، إلى شخص يهرول للحصول على شربة ماء. تحولت من مقام إلى حال لم أعهده".

ورغم ما أصابه من تبدل في الحال، لم ينكسر احترام الناس له، بل تلقى خطواته في تعزيز قيم التكافل والحفاظ على النسيج المجتمعي ترحاباً وتشجيعاً من مختلف فئات المجتمع، وخاصة من زملائه الذين يفخرون بما يقوم به: 

"زملائي يراسلونني، يعبرون عن فخرهم، ويحثونني على الاستمرار، يقولون إنني لم أتغير، بل ارتقيت".

ففي زمن الفوضى، باتت المبادرة البسيطة لتنظيم طابور ماء، فعلاً نبيلاً، وموقفاً قانونياً وإنسانياً في آنٍ واحد.

ويؤكد العطار أن المجاعة لم تفرق بين عالم وجاهل، غني وفقير، بل طالت كل فئات المجتمع، ورغم انهيار قطاعات الصحة والتعليم، إلا أن عزيمة الفلسطيني لن تنطفئ، فيختم بالقول:

"سنعيد بناء كل شيء،، سنعيد بناء الإنسان قبل الحجر، وسنصل إلى وطن حر ومزدهر، مهما طال الطريق".