مجتمع التحقق العربي هو منظمة بحثية غير ربحية معنية بدراسة الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة باللغة العربية على الانترنت، وتقديم الحلول الرائدة والمبتكرة لرصدها

الرسم فن ومقاومة من أجل البقاء

الرسم فن ومقاومة من أجل البقاء
kashif_ps

الكاتب

kashif_ps

أحلام حماد / غزة

وسط ظروف معقدة، إنسانيا وأمنيا، امتلكت الرسامة الثلاثينية منال الكحلوت من الشجاعة واليقين ما مكنها من مواصلة العمل والإبداع في إنتاج لوحات فنية توثق الألم، وتكشف الحقيقة، وتنتصر للضحايا.

أجبرت الكحلوت (35 عاما) وأسرتها على النزوح 5 مرات، منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، كانت كلها من مكان إلى آخر في النصف الشمالي من القطاع، ولم ينزحوا جنوبا كما أغلبية السكان.

عانت الكحلوت الويلات خلال الحرب المستعرة في عامها الثاني، غير أنها كانت دافعا لها للتميز، وإثبات ذاتها، حتى في أحلك ظروف مرت بها، وتقول: "كلنا في حالة هروب مستمر من الموت، وركض لا ينتهي نحو النجاة. نركض حتى ننسى أسماءنا أحيانا. الظروف القاهرة لا تترك لنا مساحة للعودة إلى ذواتنا، لكننا رغم ذلك نشتاق لها. نحاول أن نتمسك بما تبقى منا، ونواجه التحديات بقلوب لم تُهزم رغم كل شيء".

"وكفنانة ورسامة كاريكاتير، كنت أرسم ما أشعر به، ما يهز داخلي، وما يترك أثرا لا يُمحى في ذاكرة الناس. أتذكر جيدًا أنني رسمت كثيرا من الأعمال تحت أحزمة نارية، وأنا أعيش في منطقة شهدت اجتياحات وحصار وتجويع. رسمت وسط أصوات القصف والرصاص، وأنا أسمع صدى الدبابات يقترب، ليس فقط من مكاني، بل من جسدي وروحي"، تقول الكحلوت.

تجارب قاسية

تقدس الكحلوت "الجسد الفلسطيني" وتبرزه بشكل واضح في رسوماتها، وبرأيها فإن "جسد الإنسان في غزة يمثل رمزا للتحدي وعشق الحياة، وقد تحمل الكثير من الآلام ليس فقط خلال هذه الحرب غير المسبوقة، وإنما على مدار العقدين الماضيين من الحصار الخانق والحروب المتكررة".

كفنانة عاينت الكحلوت الكثير من الويلات والتجارب القاسية خلال شهور الحرب في شمال القطاع، وكانت نظرتها لها مختلفة عن غيرها، تعايشها وتتفحصها من أجل أن تسكبها حبرا على ورق وتحولها إلى لوحة فنية، وقد نجت هي نفسها من الموت غير مرة، وفي إحدى الغارات الجوية الإسرائيلية على مدرسة مجاورة لمدرسة كانت تنزح بها في حي الرمال بمدينة غزة أصيب شقيقها، وفقدت آثار زوجة خالها التي غادرت المدرسة تحمل الرعب في قلبها وعلى كتفيها ولا تزال مفقودة حتى اللحظة، ولا نعرف شيئا عن مصيرها.

وحسبما تقول: في "في كل مرة كنت أترك مكاني مرغمة، أتنقل من حي إلى آخر، وأنا أسمع الاشتباكات، صوت المدفعية، ورائحة الخوف تملأ المكان. في إحدى المرات، كنت فعليًا محاصرة بين الدبابات، لا شيء كان آمنًا".

تنزح الكحلوت حاليا في مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، وفي المرة الأولى التي اضطرت فيها لمغادرة بيتها في شمال القطاع كانت بدافع الخوف بعد تهديد إسرائيلي بقصف مسجد مقابل لمنزل أسرتها، وتضيف: "لجأنا إلى منزل أختي في الشارع نفسه ولا يبعد عنا سوى خمسة منازل، ومكثنا لديها لفترة قصيرة، إلى أن أصبح الجيش الإسرائيلي على مشارف الحي، وكانت الأحزمة النارية والقصف العنيف يحيط بنا والموت يقترب".

"قبيل مغيب الشمس من ذلك اليوم، اشتد القصف والخوف، وتساقطت شظايا الصواريخ والقذائف على منزل شقيقتي، واضطررنا للمغادرة تحت القصف، ولجأنا إلى تلك المدرسة ولم نمكث بها سوى 48 ساعة، وشعرت حينها أن الموت يلاحقنا ويستهدفنا"، والحديث للكحلوت.

ذاقت الكحلوت مرارة الفقد، وقد خطفت الحرب عددا لا تحصيه من أقاربها وأصدقائها، لكنها تذكر بكثير من الألم والحسرة فقدها لزميلتها الفنانة محاسن الخطيب، وصديقة طفولتها وابنة خالتها كوثر، وتقول إن "فقدهما كسر قلبي بطريقة لا تُرمم".

أصابت أضرار جسيمة المنزل الذي ولدت وترعرعت فيه الكحلوت، غير أنه بالنسبة لها ""خسارة الأرواح تبقى الأثقل وتعلق بالذكرة طويلا".

خيار صعب

لم يكن البقاء في شمال القطاع وعدم النزوح جنوبا خيارا سهلا، بل كان خيار الضرورة، وحسبما تقول الكحلوت: "لم أغادر إلى الجنوب، رغم كل الدعوات والتحذيرات المتكررة، لأن المغادرة بحد ذاتها كانت محفوفة بالخطر، ولأن جذوري هنا، ولا أريد الموت غريبة".

"عشنا شهورا تحت الحصار والاجتياحات المتكررة، بلا ماء، ولا كهرباء، ولا دواء، ولا أدنى مقومات الحياة والأمان. ومع تفاقم الحصار، عشنا مجاعة حقيقية بكل ما تعنيه الكلمة. لم يكن هناك خبز. كنا نبحث عن أي بديل للطحين، فاعتمدنا على دقيق الذرة الحمراء، وحتى أعلاف الحيوانات والطيور، وفي بعض الأيام لم نجد سوى نبات الخبيزة لنأكله. الجوع كان حاضرًا في كل لحظة، وأنهك أرواحنا وأجسادنا"، تصف الكحلوت اصعب مرحلة عاشتها محاصرة في شمال القطاع.

وتضيف: "كل يوم كان اختبار جديد للقدرة على الاحتمال والصمود، وكل ليلة كانت معركة بقاء. رؤية الشوارع تتحول إلى ركام، والمنازل تُمحى، والناس تُقتلع من أماكنها، كانت كفيلة بتحطيم أي روح... ومع ذلك، تشبثنا بالحياة"، وتزيد: "لم يكن البقاء فقط فعل وجود، بل فعل مقاومة وصمود، في وجه الجوع، والقصف، والعزلة، وكل أشكال الموت البطيء".

فن يخترق الحصار

لم تستسلم الكحلوت لهذا الواقع المرير، ومن بين براثن الخوف والموت، وحدة المجاعة، استغلت موهبتها في الرسم وإنتاج لوحات فنية تمثل توثيقا حياً لتجارب عايشتها بنفسها أو مشاهد مرت بها من يوميات الحرب الدامية والقاسية في شمال القطاع.

تقول الكحلوت: "الرسم بالنسبة لي لم يكن فقط وسيلة تعبير، بل وسيلة للبقاء، رغم صعوبة الظروف، وقد أنجزت أكثر من 100 رسمة كاريكاتير رقمية على هاتفي المحمول، أغلبها توثق الحرب ومشاهد الجوع والفقد".

"رسمت وكنت أمحو كثيرا، وأحيانا حذفت رسومات كاملة من جهازي بسبب الانهيار أو الخوف من أن يشكل نشرها خطرا علينا كأسرة، لكن كل لوحة تركت أثرا في داخلي، حتى تلك التي لم تنشر"، ومن أقرب هذه اللوحات لقلب الكحلوت لوحة بعنوان: "باقة ورد من ليالي سنة 2024 تعتذر منكِ يا غزة"، وعنها تقول: "هذه اللوحة رسمتها خلال واحدة من أقسى الليالي. رسمتها على جلسة واحدة ومن دون توقف. كانت ليلة كأنها خارج الزمن، ولم أعتقد وقتذاك أنني سأنجو من الموت".

واخترقت لوحات الكحلوت حجب الحرب والحصار ووجدت طريقها إلى معارض إقليمية ودولية، وتقول الرسامة الثلاثينية إن "من أهم المحطات في مسيرتي معرضي الشخصي في مدينة برشلونة بأسبانيا، بتنظيم من المؤسسة الثقافية أتينيو هارمونيا".

هذا المعرض كان مساحة لعرض معاناة غزة من خلال الفن، ونقطة وصل إنسانية بين من يعيشون الحرب ومن يشاهدونها من بعيد. رغم أن بعض الأعمال خضعت لتعديلات لتتناسب مع شروط العرض في أوروبا، إلا أن الرسالة الجوهرية ظلت واضحة: غزة ليست فقط ساحة حرب، بل موطن للناس والفن والحلم والمقاومة، تقول الكحلوت.